منازل التوابين
من الناس من نشأ على الخير ، فرعاية حقوق الله عزوجل عليه أسهل,
ومنهم تائب بعد صبوته ، وراجع إلى الله عن جهالته ، وإنه ليدخل فى نطاق قوله تعالى : " والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم ".
أما النوع الثالث : فإنه المصر على ذنبه المقيم على سيئاته ، إنه محتاج إلى ما يصل به عقود الإصرار من قلبه ، فيتوب إلى ربه من ذنبه ، فيلحق بصاحبيه الذين من قبله ، الناشئ على غير صبوة ، والمنيب بالتوية إلى خالقه تعالى.
ما الذى يبعث على التوبة وترك الإصرار : فهو الخوف والرجاء ، يقول الحق عزوجل : " وأما من خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هى المأوى ".
فأخبر عز وجل ، أنه لما خاف ربه نهى النفس عن الهوى ، ولقد وصف الله أولياءه بأنهم يدعونه رغبا ورهبا : أى راغبين خائفين.
وينال الخوف والرجاء ، بأن تصبح المعرفة بعظم قدر الوعد الوعيد واضحة سافرة والله سبحانه وتعالى قد خوفنا بالعقاب لنخوف أنفسنا ، ومما يعين على ذلك ، وقد أمرنا الله به : أن نفكر فى المعاد ، وهجوم الموت ، وعظيم حق الله سبحانه وتعالى ، ووجوب طاعته.
وحقا أن الفكر فى ذلك ثقيل على النفس بيد أنه مما يخففه علم الإنسان بعظيم قدر ما ينال بالفكرة من المنافع فى الدنيا والآخرة : ذلك أن فى نعيم الطاعة فى الدنيا والظفر بنعيم الآخرة سعادة لها لذة المعاصى.
على أن المصرين فى منازل شتى : فمنهم من كثرت ذنوبه ، ومنهم من قلت ذنوبه ، ومنهم تائب من بعض ذنوبه وهومصر على البعض الآخر.
وعلاج كل ذلك هو إدمان الفكر بالتخويف ، كالداء إذا عضل لم يبرأ صاحبه إلا بدوام التداوى ، وإدمان الفكر بالتخويف يستمر إلى أن تسخو نفسه بالتوبة الخالصة النصوح التى يوقن فيها أنها كانت منـَّة من ربه ،سبحانه وتعالى ، لابقوته هو فيستأهل الزيادة من الله عز وجل لآنه يقول : " لئن شكرتم لأزيدنكم " وفى التفسير : لأزيدنكم من طاعتى.
على أن إذا سخت نفسه بالتوبة فتاب ، فإنه يجب أن يستمر فى تيقظه وحذره ، فإن الإهتمام والحذر إن ألزمهما قلبه يوقظاه ، فيما يستقبل منعمره ، فإذا استمر على توبته دخل تحت قول الله تعالى : " رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ".
جـــــــاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
" إن العبد ليذنب الذنب فيدخله ذنبه الجنة ؛ فقيل : يــــا رسول الله ؛ كيف يدخله ذنبه الجنة ؟ قال : لا يزال نصب عينيه تائبا منه هاربا منه حتى يدخلهالجنة"
وقيل لسعيد بن جبير : من أعبد الناس ؟ قال : رجل أصاب من الذنوب فإذا ذكرها اجتهد...
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال : " خياركم كل مفتتن تواب "
ومن هنا تأتي الرعاية لحقوق الله عز وجل ؛ والقيام بها على أكمل وجه ؛ وقدجاء في الحديث : " يعجب ربك للشباب ليست له صبوة" أي : يسر به ويعظم قدره عنده "
وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن اللهعز وجل يقول ( أيها الشاب الباذل شبابه لي ؛ التارك شهوته من أجلي ؛ أنت عندي كبعض ملائكتي)
فمن أطهر من هذا قلبا ؟ أو من أولى بالمعونة والتوفيق ممن لم يرتكب الذنوب عند بلوغه ؛ ونشأ على طاعة ربه وعبادته ؛ واعتاد القيام بحقه.
ومما لا مماراة فيه : أنه لابد للخلق أجمعين من معرفة حقوق الله ، عز وجل ، بأسبابها وأوقاتها وعللها وارادتها ووجوبها ، وفيم هى ؟
وأيها بدأ الله عز وجل خلقه ؟ فعلى العبد أن يبدأ بما بدأ الله به عز وجل ، به
فيبدأ برعاية حقوق الله عزوجل فى قلبه إذ عنه تكون أعمال الجوارح ، وجمل حقوق الله فى القلب ثلاث : إعتقاد الإيمان ومجانبة الكفر ، واعتقاد السنة ومجانبة البدعة ، واعتقاد الطاعة ومجانبة الإصرار على ما يكره الله عز وجل من عمل قلب وبدن.
فمن ترك ما يهوي قلبه وتشتهيه نفسه مما كره ربًه ؛فقد احتجب عن النــار واستوجــب الحلول في جــــوار اللــــــــــه.