دور المرأة المسلمة في الحياة
الشيخ: عصام البشير المغربي
حدَّثني صاحبي فقال:
"أحبُّ أن أخبرَك عن حادثة وقعتْ لبعض معارفنا، لم أجدْ لها مسوِّغًا في عقلي، ولا قَبولاً في قلبي، ولقد وجدتُ مِن أثرها ضيقًا وكَدرًا، حتى أزمعتُ أن أعرضَها عليك، لعلَّك تُفيدني بشيءٍ من مصادرها ومواردها، فأتسلَّى بتحليل الواقعة عن تحمُّل وقْعِها على النَّفْس".
فقلتُ: "أخبرني بما بدا لك، فإنَّك لستَ أوَّل مَن يَعرض عليّ من غرائب المجتمع ما تطول منه فِكرتي، وتنشغل به مُهجتي".
فقال الرجل:
"هذه امرأة متديِّنة محجَّبة، نعرفها بالخير والالتزام بالشرْع، وهي فوق ذلك أستاذة جامعيَّة، وداعية إلى الله في المساجد والبيوت، ولها من الذريَّة ما تقرُّ به العين".
فبادرتُ قائلاً:
"هذا كله حَسَنٌ طيِّب، فأين الإشكال؟".
فقال:
"الإشكال - يا عزيزي - أنَّ هذه المرأة جاءتْها دعوةٌ للتدريس في بعض البلاد خلال الإجازة الصيفيَّة، فرحلتْ مع زوجها، وتركتِ الأبناء لأنفسهم، وفيهم مَن هو في سنِّ المراهقة، فكأنَّها قدَّمتْ مصلحة عملها خارج البيت على مصلحة عملها داخله".
فقلتُ:
"وهل يستقيم في ذهْنِ مسلمة عاقلة أن تعقِدَ المقارنة أصلاً بين عملها داخل البيت وخارجه، فضلاً عن أن تقدِّم ثاني العملين على أولهما؟!".
هذا ملخَّص الحادثة التي دفعتْني إلى كتابة هذه السطور.
إنَّ المرأة المسلمة تعرَّضتْ في مرحلة ما يُسمَّى: "بالاستعمار" إلى عملية تغريبية طاغية، جعلتْها تخرج قَسْرًا من أخلاقها الإسلامية، وتكتشفُ في كثير من الدهشة - التي سَرعان ما تحوَّلت إلى غبطة - بعض أحوال المرأة الغربية، وظنَّتِ المرأة المسلمة - ومَن وراءها من دُعاة التغريب - أن هذا الذي يأتي من الغرب هو أفضل ما تكون عليه المرأةُ؛ في أخلاقها وطباعها، وعلاقاتها داخل المجتمع.
وسارت المرأة على هذا التغريب ردحًا من الزمن؛ حتى تشكَّلتْ بسبب ذلك أجيال من النساء المنقطعات - كُليًّا أو جُزئيًّا - عن ماضيهنَّ الإسلامي المشْرِق، ولم يكنْ ذلك انقطاعًا في الظواهر والأفعال، وإنَّما عُجِنتْ نفوس النساء من جديد، وحُوِّرَتْ عقولهنَّ وقلوبهن، فتغيَّرت آمالهنَّ وطموحاتهن، وتبدَّل مفهومُهن للحياة، وتصوُّرُهنَّ لدور المرأة في الكون.
فلمَّا جاءت الصحوة الإسلامية تريد الإصلاح ما استطاعتْ إلى ذلك سبيلاً، حاولتْ أن تُرْجِعَ المرأة إلى مواقعها الأصلية، التي في ملازمتها صلاحها وصلاح مجتمعها؛ ونجحتْ - والحق يُقال - في كثيرٍ من ذلك، ولكنَّها لم تتمكَّن من الإصلاح الجَذْري لِمَا استقرَّ في النفوس، وانطوتْ عليه القلوب؛ ولذلك صِرْنا نرى مثل هذه النماذج الكثيرة، لنسوة صالحات ملتزمات بشريعة الله إجمالاً، ولكنهنَّ لا يَمْلكنَ من فقه الأولويَّات ما يُرَجِّحْنَ به مسؤولية بيوتهنَّ، وتكاليف أمومَتِهن، على ما يُسمَّى في حضارة الغرب: "الازدهار الذاتي"، أو "التنمية الشخصية".
فصِرْنا محتاجين إلى إعادة التركيز على كثيرٍ مما كنَّا نظنُّه من البديهيات التي لا نزاعَ فيها عند المتدينين؛ إذ كلامنا ليس عن عوام المسلمين، ولا عن طائفة المتغرِّبين في فِكرهم ووجدانهم، وإنَّما عن الذين يحملون همَّ هذا الدين، ويسعون إلى إحياء ما انْدرسَ من أمجاده، وإعادة تطبيقه في المجتمعات والدول.
لقد وقَعَ في العقود الأخيرة انحرافٌ خطير في مفاهيمنا المتعلقة بدور المرأة في الحياة، وقد بدأ الانحراف حين فتَحَ المتدينون أمام المرأة أبوابَ مشاركة الرجال خارج البيت، وما فَتِئ الشيطان يسوِّل خطوة بعد خطوة؛ حتى فُتِحتْ تلك الأبواب على مِصراعيها، واتَّسعَ الخَرقُ على الراقع.
ولقد كان الدعاة في أول الأمر يركِّزون على أنَّ هذا الخروج لا بُدَّ له من ضوابط ينبغي مراعاتها، وقيود لا بُدَّ من التزامها، لكن ما لبِثَ السيلُ الجارف أن أتى على الأخضر واليابس، فما عاد أحد - إلاَّ القليل - يكترثُ لتلك الضوابط والقيود، وصِرْنا نرى المرأة المتدينة مشارِكة في المجالس النيابيَّة والجماعيَّة، وعاملة في الجمعيَّات الثقافية والاجتماعية، ومحاضرة في الملتقيات والندوات، عدا عملها الذي تكون فيه طبيبة أو مهندسة أو أستاذة أو غير ذلك، مما لا ينضبط ولا ينحصر.
وأين بيتها في هذا كلِّه؟ وما نصيب زوجها وأولادها من هذه الجهود التي لا تَنِي؟!
أفتكون أمهاتُنا وجَدَّاتُنا الأُمِّيات المحافظات على وظيفة رَبَّة البيت أتمَّ المحافظة، أفضل حالاً من نساء العصر المتعلِّمات الملتزمات؟!
إنَّ على المرأة المسلمة أن تَعِي خطورة انجرافها وراء دُعاة التغريب؛ من حيث تدري أو لا تدري؛ وأنْ تفهمَ عظيمَ أَثَرِ انسياقها في تنفيذ المخططات الكَيديَّة التي ما فتئتْ تجتهد لإخراج المرأة من بيتها، وفَصْمِ علائقها بالمهمات التربويَّة العظيمة التي أناطها اللهُ بها.
إن خروجَ المرأة المسلمة من بيتها، وعدم اكتراثها بمهمتها الأصليَّة في الحياة، يؤدِّي - لا محالة - إلى تفسُّخ الأسرة التي هي نواة المجتمع، وإلى نشوء الأطفال - في غياب أُمَّهاتهم - على موائد يقدَّم لهم فيها غذاء فِكري مَسموم من القنوات التلفازيَّة، أو الشبكة العنكبوتيَّة، أو جهالات الخادمات، أو عبث الأصدقاء، أو نحو ذلك مما ضررُه أكبر من نفْعه، أو مما هو ضررٌ كلُّه.
نعم ليست المرأة المسلمة - كما يَدَّعِي علينا دُعاة التغريب - أداة مُجرَّدة للمتعة الجسديَّة في يد الرجل، ولا هي صورة جميلة أو دُمْيَة فاتنة يتباهى بها الزوج أمام عائلته وأقاربه، ولا هي آلة لتفريخ الأولاد وتكثير النَّسْل؛ ولكن ليستْ كذلك ندًّا للرجل، تَسْمُتُ سَمْتَه في كلِّ ما يأتي ويَذَر، وتجاريه في كلِّ مضمار، وتلاحقه في كلِّ مَيدان.
وإذا كانتْ بعض النسوة في زمن النبوَّة قد تاجَرْنَ أو مارَسْنَ الحِسبة أو خَرَجْنَ للجهاد، فما كان ذلك قاعدة مُطردة، ولا مَهيعًا لهنَّ مسلوكًا؛ وإنَّما كان مندرجًا في إطار الحالات الاستثنائية، التي يُتطلَّب لوقوعها الأسباب والدواعي، ولا تكون أصلاً يُستدلُّ به في عموم الأحوال، أمَّا الأصلُ المتَّبَع، فهو ما دلَّ عليه قوله - تعالى -: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 33 ]، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرأةُ عَورَةٌ، فإذا خَرجَت اسْتَشْرَفَها الشيطَان))؛ أخرجه الترمذي، (3 / 476)، وقال: حديث حَسنٌ غريب.
الأسباب والحلول:
يمكنُنا أن نُجْمِلَ أسباب هذه الظاهرة التي صارتْ متفشِّية في صفوف النسوة المتدينات في الأمور الآتية:
أولاً: تأثير الحضارة الغربية الجارفة، والمرأة مَهْمَا كان تديُّنها لا يُمْكنها أن تبقى منعزلة كلَّ الانعزال عن المؤثِّرات الحضارية الآتية مما وراء البحار.
ثانيًا: أَثَر المدرسة وما تتلقَّى فتياتُنا فيها من مبادئ، بل منظومات قِيَمٍ متكاملة، توجِّه تفكيرهنَّ، وتحدِّد معالِمَ شخصيتهنَّ، ولا شَكَّ أنَّ أغلبَ المناهج التعليميَّة في العالَم الإسلامي لا تُراعي خصوصيَّة تعليم الفتاة المسلمة، وتنشئتها على غير ما ينشأ عليه الفتيان.
ثالثًا: تركيز كثيرٍ من الدُّعاة في خطابهم على المواقف الدينيَّة التي يُمكن أن يُسْتَدلَّ بها على المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، وإغفالهم كثيرًا شَرْحَ دور المرأة المسلمة في بيتها، مع زوجها وأولادها، والغالب أنَّهم يفعلون ذلك حِرصًا منهم على إرضاء الغرب والمتأثرين بمناهجه؛ وذلك لمصلحة نشْر الدعوة في بقاع العالم فيما يَحْسبون.
رابعًا: ضَعف التأطير التربوي للنساء الملتزمات حديثًا، فقد يكتفي المؤطِّرون من أعضاء الجماعات الإسلامية العاملة - في أحايينَ كثيرة - بالتأطير السياسي، وشيءٍ من مبادئ تزكية النفوس، ويغفُلون الجوانبَ الاجتماعية الكبرى، التي ينبني عليها رُقِيُّ المجتمعات الإسلامية أو انحطاطها.
إذا علمتَ هذه الأسباب، فإنَّنا يمكن أن نقترَحَ بعض الحلول العملية، التي تضمنُ بمجموعها الخروج من هذا المأْزِق الاجتماعي الخطير:
* فمن الحلول أن يتفطَّنَ المسؤولون على قطاع التربية والتعليم إلى ضرورة إنشاء مجالات تعليميَّة في المدارس، تكون خاصة بالفَتَيات، وهي التي يصطلح عليها بعض الناس بـ (التربية النسوية).
فإنَّ وجود مثل هذه المجالات كفيلٌ بأن يرسِّخ في أذهان فتياتنا معاني التفريق بين الجنسين؛ في الشخصية، والأدوار، والتطلُّعات.
* ومن الحلول أيضًا أن يعكفَ الدُّعاة المصلحون في محاضراتهم وكتاباتهم على إحياء المفاهيم الإسلامية في مجال المرأة والأسرة، وإماطة ما غَشِيها من غبار التغريب في العقود الأخيرة.
وللدُّعاة مسؤولية كُبرى في تربية النساء على أهميَّة دورهنَّ داخل البيت، وتربيتهنَّ على أن الطموحَ الحقيقي للمرأة ليس في العمل الخارجي، ولا في المشاركة السياسيَّة، ولا في أنشطة الجمعيَّات، وإنَّما أولاً وأخيرًا في بيتها، مع زوجها وأولادها.
وعلى الدُّعاة أن يكونوا في هذا المجال معتدِّين بأنفسهم في مواجهة المتغرِّبين، فلا يكونوا في موقف الدفاع، ولا يرضوا بأن تُوضَعَ قِيَمُنا في قفص الاتِّهام.
* ومن الحلول أخيرًا أن تُقْطَعَ العلائق الخبيثة التي تجرُّ فتياتنا إلى الانبهار بالغرب ومتابعته في كلِّ شيء، وخاصة الأفلام والمسلسلات التي تُظْهِر أنَّ المرأة الصالحة هي التي تعمل خارج بيتها، وتنافِس الرجال في الجليل والحقير؛ وأن رَبَّة البيت هي امرأة تافهة مسكينة، مُعرَّضة لكلِّ أنواع الاستغلال والإذلال.
حفظ الله نساءَنا وفتياتِنا من كلِّ تفسُّخ وانحلال.