دواء الذنوب
عبده قايد الذريبي
الإنسان بطبيعته التي خلَقَه الله عليها يَمِيل إلى ما يُوافق هواه، وكثيرًا ما يُخْطِئ في حقِّ الله - تبارك وتعالى - إمَّا بالتقصير في طاعته سبحانه، وإمَّا بفِعْل ما نَهى الله عنه.
ومن رَحْمة الله - تعالى -وفضْلِه أنْ جعل للمُذْنِب بابًا مفتوحًا، وهو باب الاستغفار والتَّوبة إلى الله - تعالى.
وكما نعلم جميعًا أنَّه لا معصومَ مِن الْخَطأ غيْرُ أنبياء الله ورسُلِه؛ كما في الحديث الذي أخرجه ابنُ ماجه وحسَّنه الألبانِيُّ عن أنس -
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون))،
فكل الناس يُخْطِئون ما عدا أنبياء الله ورسله - عليهم الصَّلاة والسَّلام جميعًا -فالإنسان لا بُدَّ له من أن يقع في الذَّنب، ولكن ما الحلُّ لذلك؟ وماذا يصنع؟
عليه أن يتوب ويَؤُوب، ويستغفر الربَّ المعبود، قال ابن عُثيمين - رحمه الله -: "يجب عليه إذا أذنب ذنبًا أن يرجع إلى الله،
ويتوب إليه، ويندم، ويستغفر حتَّى يَنْمحي عنه ذلك الذنب"؛ "شرح رياض الصالحين".
فالذُّنوب داء، وعلاجُها: التَّوبة والاستِغفار،
قال ابن رجب - رحمه الله -: "وبالْجُملة فدَواء الذُّنوب الاستغفار... قال قتادة: إنَّ هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم؛ فأمَّا داؤكم فالذُّنوب،
وأمَّا دواؤكم فالاستغفار"، وقال بعضهم: "إنَّما معول الْمُذنبين البكاء والاستغفار، فمن أهَمَّتْه ذنوبه أكثر لَها من الاستغفار،
قال رباح القيسيُّ: لي نيِّف وأربعون ذنبًا قد استغفرتُ الله لكلِّ ذنب مائة ألف مرة"[1].
ويقول ابنُ عُيَينة: "غضَبُ الله داءٌ لا دواءَ له"، فيعلِّق على ذلك الحافظُ الذَّهبِيُّ على ذلك فيقول: "قلتُ: دواؤه كثرة الاستغفار بالأَسْحار، والتوبة النَّصوح"[2].
ولذلك مِن فضل الله على عباده أنَّه جعل باب التوبة مفتوحًا إلى يوم القيامة، ولَم يُغْلِقه على أحدٍ مهما كان ذنبه؛ ولذلك يَحُثُّنا - تبارك وتعالى -
على الاستغفار، ويُرَغِّبنا فيه، فقال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ [هود: 3].
ومدَحَ الله - تبارك وتعالى -المستغفرين، وأثْنَى عليهم، فقال تعالى: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، وقال:
﴿ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ ﴾ [آل عمران: 135].
ووعد سبحانه عباده المستغفرين بالمغفرة؛ فقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]،
وغير ذلك من الآيات التي يحثُّنا فيها - تبارك وتعالى -على الاستغفار، وجاءت السُّنة الصحيحة أيضًا بالحثِّ على الاستغفار؛ والترغيب فيه؛
والتذكُّر بشأنه في أحاديثَ كثيرةٍ، ومنها: ما رواه مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة -رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
((والَّذي نفسي بيده، لو لَم تُذْنِبوا فتستغفروا لذَهَب الله بكم، ولَجاء بقومٍ يُذْنِبون فيستغفرون الله، فيغفر الله لَهم)).
وليس في الحديث التَّساهلُ في الوُقُوع في الذنب، ثُمَّ الاستغفار بعد ذلك؛ وإنَّما فيه بيانٌ لِحالة العبد بعد توبته واستغفارِه
من الذنب، وأنه إذا أذنب فقد جعل الله له مَخرجًا من ذلك بالتوبة والاستغفار؛ يقول الْمُناوي - رحمه الله -:
"((لو لَم تُذْنِبوا لَجاء الله تعالى بقوم يذنبون))؛ أيْ: ثُمَّ يستغفرون ((ليغفر لَهم))؛
لِما في إيقاع العباد في الذُّنوب أحيانًا من الفوائد التي منها تنكيس الْمُذنِب رأسه، واعترافُه بالعجز، وتبَرُّؤه من العُجْب"[3].
وقال ابن عثيمين - رحمه الله -: "وهذا ترغيبٌ في أنَّ الإنسان إذا أذنب، فليستغفر الله، فإنه إذا استغفر الله - عزَّ وجلَّ - بنية صادقة وقلب موقِن،
فإنَّ الله تعالى يغفر له:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾
[الزمر: 53]؛ "شرح رياض الصالحين".
ومِمَّا جاء من الأحاديث في الحثِّ على الاستغفار ما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ أيضًا في "صحيحه"
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يَحْكي عنْ ربِّه - عزَّ وجل - قال:
((أذْنبَ عبْدٌ ذنْبًا، فقال: اللهم اغْفرْ لي ذنبي، فقال - تبارك وتعالى -: أذْنب عبدي ذنْبًا فعلم أنَّ له ربًّا يغْفر الذنْب ويأْخذ بالذَّنْب،
ثم عاد فأذْنب، فقال: أيْ ربِّ اغْفِر لي ذنْبِي، فقال - تبارك وتعالى -: عبدي أذْنب ذنْبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغْفر الذنْب ويأْخذ بالذنْب،
ثم عاد فأذنب، فقال: أيْ رب اغفر لي ذنبِي، فقال - تبارك وتعالى -: أذْنب عبدي ذنْبًا، فعلم أنَّ له ربًّا يغْفر الذنْب ويأْخذ بالذنْب، واعْمَلْ ما شئْتَ فقدْ غفرْتُ لك)).
وجاء أيضًا في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول:
((إنَّ عبْدًا أذْنب ذنْبًا))، وذكر ثلاث مراتٍ: ((أذْنب ذنْبًا))، وفي الثالثة: ((قدْ غفرْتُ لعبدي فليعمل ما شاء)).
والمقصود - والله أعلم - أن المراد بالاستغفارِ هنا الاستغفارُ الْمَقرون بعدم الإصرار على الذنب؛ لما رُوِي في الأثر:
عنْ أبي بكْرٍ الصديق - رضي الله عنْه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم -:
((ما أصرَّ مَن استغفر، وإنْ عاد في اليوم سبعين مرةً)).
فلا تيئس ولا تقنط من رَحْمة الله مهما كانت ذنوبك وسيِّئاتك، ولو بلغَتْ ذنوبُك عنان السماء، ولَم تُحْصِ لَها عدًّا، فعليك بالتوبة
والاستغفار، جاء في الحديث الَّذي رواه الترمذي، وصحَّحه الألبانِيُّ عن شدَّاد بن أوس عن النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -قال:
((أسألك مِن خيْرِ ما تَعْلم، وأعوذ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرك لِمَا تعلم، إنَّك أنت علاَّمُ الغيوب)).
وفي مثل هذا يقول بعضُهم:
أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِمَّا يَعْلَمُ اللَّهُ
إِنَّ الشَّقِيَّ لَمَنْ لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ
مَا أَحْلَمَ اللَّهَ عَمَّنْ لاَ يُرَاقِبُهُ
كُلٌّ مُسِيءٌ وَلَكِنْ يَحْلُمُ اللَّهُ
فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مِمَّا كَانَ مِنْ زَلَلٍ
طُوبَى لِمَنْ كَفَّ عَمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ
طُوبَى لِمَنْ حَسُنَتْ مِنْهُ سَرِيرَتُهُ
طُوبَى لِمَنْ يَنْتَهِي عَمَّا نَهَى اللَّهُ [4]
﴿ وَمَنْ يَعْمَل سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110].
قُلْ لِلَّذِي أَلِفَ الذُّنُوبَ وَأَجْرَمَا
وَغَدَا عَلَى زَلاَّتِهِ مُتَنَدِّمَا
لاَ تَيْئَسَنْ وَاطْلُبْ كَرِيمًا دَائِمًا
يُولِي الْجَمِيلَ تَفَضُّلاً وَتَكَرُّمَا
يَا مَعْشَرَ العَاصِينَ جُودٌ وَاسِعٌ
عِنْدَ الإِلَهِ لِمَنْ يَتُوبُ وَيَنْدَمَا
يَا أَيُّهَا العَبْدُ الْمُسِيءُ إِلَى مَتَى
تُفْنِي زَمَانَكَ فِي "عَسَى" وَ"لَرُبَّمَا"؟!
بَادِرْ إِلَى مَوْلاَكَ يَا مَنْ عُمْرُهُ
قَدْ ضَاعَ فِي عِصْيَانِهِ وَتَصَرَّمَا
وَاسْأَلْهُ تَوْفِيقًا وَعَفْوًا ثُمَّ قُلْ:
يَا رَبِّ بَصِّرْنِي وَزِلْ عَنِّي العَمَى
ونَخْتم بقول أصدق القائلين: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [طـه: 82].
وفَّقَنا الله جميعًا لِمَا يُحِبُّه ويرضاه، وجنَّبَنا وإيَّاكم جَميع ما يكرهه ويأباه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] "جامع العلوم والحكم"، ص (397).
[2] "سِيَر أعلام النُّبَلاء" (12/344).
[3] "فيض القدير" (5/331).
[4] يُنظر: "جامع العلوم والحكم" (397 - 398).