ويوم يعض الظالم على يديه
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي
من المشهور عند علماء التفسير أن الظالم الذي نزلت فيه هذه الآية ، هو عقبة بن أبي معيط ، وأن فلاناً الذي أضله عن الذكر أمية بن خلف ، أو أخوه أبي بن خلف ، وذكر بعضهم أن في قراءة بعض الصحابة. ليتني لم أتخذ أبياً خليلاً ، وهو على تقدير ثبوته من قبيل التفسير ، لا القراءة ، وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ ، لا بخصوص الأسباب ، فكل ظالم أطاع خليله في الكفر ، حتى مات على ذلك يجري له مثل ما جرى لابن أبي معيط.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات الكريمة جاء موضحاً في غيرها. فقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } كناية عن شدة الندم والحسرة ، لأن النادم ندماً شديداً ، يعض على يديه ، وندم الكافر يوم القيامة وحسرته الذي دلت عليه هذه الآية ، جاء موضحاً في آيات أخر ، كقوله تعالى في سورة يونس : { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ يونس : 54 ] الآية. وقوله تعالى في سورة سبأ { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَجَعَلْنَا الأغلال في أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ } [ سبأ : 33 ] الآية : وقوله تعالى : { قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } [ الأنعام : 31 ] الآية. والحسرة أشد الندامة وقوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } [ البقرة : 167 ] إلى غير ذلك من الآيات ، وما ذكره هنا من أن الكافر يتمنى أن يكون آمن بالرسول في دار الدنيا ، واتخذ معه سبيلاً : أي طريقاً إلى الجنة في قوله هنا : { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] وقوله تعالى : { يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] وقوله تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] إلى غير ذلك من الآيات.
والسبيل التي يتمنى الكافر أن يتخذها مع الرسول المذكورة في هذه الآية ، ذكرت أيضاً في آيات أخر كقوله تعالى في هذه السورة الكريمة سورة الفرقان { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } [ المزّمّل : 19 ] و [ الإنسان : 29 ] في المزمل والإنسان ، ويقرب من معناه المآب المذكورة في قوله تعالى : { ذَلِكَ اليوم الحق فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً } [ النبأ : 39 ] وما ذكره هنا من أن الكافر ينادي بالويل ، ويتمنى أنه لم يتخذ من أضله خليلاً ، ذكره في غير هذا الموضع ، أما دعاء الكفار بالويل : فقد تقدم في قوله تعالى : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } [ الفرقان : 1314 ] وأما تمنيهم لعدم طاعة من أضلهم ، فقد ذكره أيضاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا }[ البقرة : 167 ] فلفظه لو في قوله : { لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً } للتمني ، ولذلك نصب الفعل المضارع بعد الفاء في قوله : { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُم } الآي. وهو دليل واضح على ندمهم على موالاتهم ، وطاعتهم في الدنيا ، وما ذكره جل وعلا هنا من أن أخلاء الضلال من شياطين الإنس والجن ، يضلون أخلاءهم عن الذكر بعد إذ جاءهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } [ الأعراف : 202 ] وقوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } [ فصلت : 25 ] الآية وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } [ الأنعام : 128 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] وقوله تعالى : { حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] وقوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] الآيات. إلى غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى هنا : { وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } الأظهر أنه من كلام الله ، وليس من كلام الكافر النادم يوم القيامة ، والخذول صيغة مبالغة ، والعرب تقول : خذله إذا ترك نصره مع كونه يترقب النصر منه ، ومنه قوله تعالى : { وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ } [ آل عمران : 160 ] وقول الشاعر :
إن المرء ميتاً بانقضاء حياته... ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا
وقول الآخر :
إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم... هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا
ومن الآيات الدالة على أن الشيطان يخذل الإنسان قوله تعالى : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] وقوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان نَكَصَ على عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إني أَخَافُ الله والله شَدِيدُ العقاب } [ الأنفال : 48] الآية. وقوله تعالى في هذه الآية : { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر } [ الفرقان : 29 ] الأظهر أن الذكر القرآن وقوله : { لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } العرب تطلق لفظه فلان كناية عن العلم : أي لم أتخذ أبياً أو أمية خليلاً ، ويكنون عن علم الأنثى بفلانة ومنه قول عروة ين حزام العذري :
ألا قاتل الله الوشاة وقولهم... فلانة أضحت خلة لفلان
وقوله : { يَعَضُّ الظالم } [ الفرقان : 27 ] من عضض بكسر العين في الماضي ، يعض بفتحها في المضارع على القياس ، ومنه قول الحارس بن وعلة الذهلي :
الآن لما أبيض مسربتي... وعضضت من نابى على جذم
فإن الرواية المشهورة في البيت عضضت بكسر الضاد الأولى وفيها لغة بفتح العين في الماضي ، والكسر أشهر ، وعض تتعدى بعلى كما في الآية وبيت الحارث بن وعلة ، المذكورين وربما عديت بالباء ومنه قول ابن أبي ربيعة :
فقالت وعضت بالبنان فضحتني... وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر
وهذه الآية الكريمة تدل على أن قرين السوء ، قد يدخل قرينه النار والتحذير من قرين السوء مشهور معروف ، وقد بين جل وعلا في سورة الصافات : أن رجلاً من أهل الجنة أقسم بالله أن قرينه كاد يرديه أي يهلكه بعذاب النار ، ولكن لطف الله به فتداركه برحمته وإنعامه فهداه وأنقذه من النار ، وذلك في قوله تعالى : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } [ الصافات : 5152 ] إلى قوله تعالى : { فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 5557 ].