تأملات في سورة الإخلاص (1)
صالح بن صبحي القيم
سورة مكية عظيمة تحدثت عن صفات الكمال لله تعالى، وأثبتت له الأحدية المطلقة المنزهة عن المماثلة في ذاته وصفاته وأفعاله، وردت على المفترين عليه جل وعلا الذين ينسبون إليه الولد والذرية من اليهود والنصارى ومشركي العرب، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا.
سبب نزولها:
جاء في سنن الترمذي عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم انسب لنا ربك فأنزل الله (قل هو الله أحد الله الصمد). (حسنه الألباني 3364 ). كما جاء عن ابن عباس: أن اليهود أتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: صف لنا ربك الذى تعبد، فأنزل الله عز وجل (قل هو الله أحد) فقال: «هذه صفة ربى عز وجل» [رواه البيهقي في الأسماء والصفات وقال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح إسناده حسن (فتح الباري 356 /13)].
فضلها:
1- تعدل ثلث القرآن:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- «احْشِدُوا فَإِنِّى سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ ثُمَّ خَرَجَ نَبِىُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَرَأَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثُمَّ دَخَلَ فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ إِنِّى أُرَى هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَذَاكَ الَّذِى أَدْخَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ نَبِىُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ «إِنِّى قُلْتُ لَكُمْ سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ أَلاَ إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». صحيح مسلم.
2- يبنى لقارئها بيت في الجنة:
عَنْ سَهْلِ بن مُعَاذِ بن أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَن ْرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَرَأَ: "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ عَشْرَ مَرَّاتٍ بنى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ"، فَقَالَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ: إِذًا نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:"اللَّهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ". [رواه الإمام أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 6472 ].
3- حراسة صاحبها وحفظه من الشرور بإذن الله:
عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِىِّ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَاحِلَتَهُ فِى غَزْوَةٍ، إِذْ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ قُلْ». فَاسْتَمَعْتُ ثُمَّ قَالَ: «يَا عُقْبَةُ قُلْ». فَاسْتَمَعْتُ فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ فَقَالَ: «(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)». فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ». [رواه النسائي وصححه الألباني في صحيح الجامع حديث رقم: 7950 ].
4- حبها سبب لدخول الجنة:
«عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَجُلا كَانَ يَلْزَمُ قِرَاءَةَ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فِي الصَّلاةِ فِي كُلِّ سُورَةٍ وَهُوَ يَؤُمُّ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا يُلْزِمُكَ هَذِهِ السُّورَةَ؟ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: حُبُّهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ» [الترمذي (2901) وحسنه الألباني].
وغيرها من النصوص الدالة على فضلها العظيم وعلو مكانتها بين آيات الله في كتابه العزيز.
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (*) اللَّهُ الصَّمَدُ (*) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (*) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} خطاب من الله عزوجل موجه إلى نبيه عليه الصلاة و السلام، يأمره فيه بوصفه سبحانه بأكمل الصفات، وأبلغ العبارات، فالأحد: الذي لا مثيل له ولا ند ولا شريك، فهو أحد في صفاته، وأحد في ذاته، وأحد في وجوده، تفرد بالربوبية {قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ..} (16) سورة الرعد. وتفرد بالألوهية {اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (2 ) سورة آل عمران. وتفرد في الصفات {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (11 ) سورة الشورى. وهي تأتي أحياناً بمعنى الواحد ولا فرق بينهما، يدل عليه قراءة ابن مسعود: قل هو الله الواحد (تفسير البغوي - (ج 8 / ص 588).
{اللَّهُ الصَّمَدُ} قال ابن عباس، ومجاهدُ والحسنُ وسعيد بن جبير: "الصمد" الذي لا جوف له. قال الشعبي: الذي لا يأكل ولا يشرب. وقال قتادة: "الصمد" الباقي بعد فناء خلقه. وقال عكرمة: "الصمد" الذي ليس فوقه أحد، وهو قول علي. وقال الربيع: الذي لا تعتريه الآفات. قال مقاتل بن حيان: الذي لا عيب فيه. (تفسير البغوي - (ج 8 / ص 588 ). قال أبو وائلِ شقيقُ بن سلمة: هو السيد الذي قد انتهى سُؤدَده، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع السؤدد(أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 407 ، والطبري: 30 / 346). هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب، تقول العرب: صمدت فلانًا أصمده صمْدًا -بسكون الميم -إذا قصدته، [والمقصود]: صمَد، بفتح الميم، وهو المعول عليه في التفسير، فمن كان متفردا بالكمال والإلوهية فيجب بأن يتصف بالصمدية فهي نتيجة للألوهية وملتحقة بها، لأنه إنما يعبد لكونه محتاجاً إليه دون العكس، فالصمدية نتيجة للإلوهية فهي مستأنفة أو مؤكدة.
{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (*) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} جاءت لتنفي الولادة و المولودية عن الله سبحانه وتعالى ومكملة لسابقاتها المثبتة للتفرد، لأن الولادة تقتضى انفصال مادة منه سبحانه، وذلك يقتضى التركيب المنافى للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه سبحانه تعالى أحد لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن لأن الولد على ماقيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك والاقتصار على الماضي دون أن يقال لن يلد لوروده رداً على من قال من المشركين أن {الملائكة بنات الله}، أو اليهود الذين قالوا{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ}، أو النصارى الذين قالوا {الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ويجوز أن يكون المراد استمرار النفى وعبّر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ} وهو لابد أن يكون بصيغة الماضي ونفى المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافى للغنى المطلق والأحدية الحقيقية أو لاقتضائها سيق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة. ولأن الولد لا يكون إِلا لمن له زوجة، والله تعالى ليس له زوجة وإِليه الإِشارة بقوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}؟! وجاء في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ «قَالَ اللَّهُ كَذَّبَنِى ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّاىَ فَزَعَمَ أَنِّى لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّاىَ فَقَوْلُهُ لِى وَلَدٌ، فَسُبْحَانِى أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا» وإنما سماه شتماً لما فيه من التنقيص لأن الولد إنما يكون عن والدة تحمله ثم تضعه ويستلزم ذلك سبق النكاح والناكح يستدعي باعثاً له على ذلك والله منزه عن كل ذلك قال الطيبي: ومما في التكذيب والشتم من الفظاعة والهول أن المكذب منكر للحشر يجعل الله كاذباً والقرآن المجيد الذي هو مشحون بإثباته مفترى ويجعل حكمة الله في خلقه السماء والأرض عبثا والشاتم يحاول إزالة المخلوقات بأسرها ويزاول تخريب السماوات من أصلها. [فيض القدير - (ج 4 / ص 473)].