الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فإن النصرة في الدين من الإيمان بالله العظيم، وقد قال ربنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ سورة الحجرات10 ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم)[رواه البخاري2442 ومسلم2580]، وأخوة الدين يشترك فيها الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والعربي والأعجمي، إنهم إخوة في الإسلام.
وقوله: (أخو المسلم)، فسره (لا يسلمه) يعني: في مصيبة نزلت به، ولا يتركه، ولا يتخلى عنه، ولا يتركه لمن يؤذيه، بل يحول بينه وبين ذلك، وقال عليه الصلاة والسلام: (المسلم أخو المسلم لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله)[رواه الترمذي1927 وصححه الألباني في صحيح الجامع6706]، وترك النصرة والإعانة شنيع، فلا بد من نصرة المسلم للمسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً) [رواه البخاري2443]، ومعنى إذا كان مظلوماً أن تأخذ له بحقه، وإذا كان ظالماً أن تأخذ له من نفسه، وأن تأخذ على يديه، والنصرة هي الإعانة، وتكون بأمور، ومن ذلك المال، وقد جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار فطرحها في حجره، وحفر للمؤمنين بئر رومة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم
من يحفر بئر رومة فله الجنة)[رواه البخاري في باب مناقب عثمان]، فحفرها عثمان رضي الله عنه، وجهز جيش العسرة، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً ليس له راحلة وهو ينظر يميناً وشمالاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له)[رواه مسلم1728]، وهكذا ذكر من أصناف المال حتى ظن الصحابة أنه لا حق لأحد منهم في زيادة عنده، والفضل هو الزيادة، وهكذا حثهم عليه الصلاة والسلام على المواساة، وعلى إعطاء ما زاد عن الحاجة، وهو الفضل، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن كان في عون أخيه كان الله في عونه، يعني ساعياً في قضاء حاجات المسلمين، بجلب النفع لهم، ودفع الضر عنهم، والله سبحانه وتعالى بعنايته الإلهية، سيكون معه،
من ينفس الكربة ينفس الله عنه الكربة، ومن ييسر على المعسر ييسر الله عنه، وهكذا كربات القيامة شديدة، ويتمنى الإنسان فيها التنفيس، فإن كان صاحب إحسان وسعياً في قضاء حوائج المسلمين جاءه التنفيس من الله، من كان في حاجة أخيه في علم فيعطيه، أو رأي فيسديه إليه، أو مال فيقرضه، أو يهبه، أو يتصدق عليه، أو معاونة فيقوم معه فيها، أو نصيحة، ومشاورة فينصح، ويخلص في النصيحة، أو ستر فيستر عليه، كان ابن سحنون رحمه الله من أطوع الناس في الناس، سمحاً، كريماً، نفاعاً للآخرين من المسلمين، كان جواداً بماله وجاهه، يصل من قصده بعشرات من الدنانير من الذهب، ويكتب لهم التوصيات، وكذلك كان نهاضاً بالأثقال، جيد النظر في الملمات.
وللجاه زكاة، فإذا كان لك مكانة، أو منصب فقد قال الشافعي:
وأد زكاة الجاه واعلم بأنها *** كمثل زكاة المال تم نصابها
وأحسن إلى الأحرار تملك رقابهم *** فخير تجارات الكرام اكتسابها
قال تعالى:مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَاسورة النساء85، فالشفاعة الحسنة: أن توصل الخير إلى الغير، وأن تسعى في قضاء حوائجهم دون أن يأخذوا ما ليس بحقهم، أو أن يعتدوا على حق الغير، وكثير من الناس يقولون: ما هو الفرق بين الواسطة الحسنة، والواسطة السيئة؟ الواسطة السيئة: أن تسعى في أن يأخذ ما ليس بحقه، أو أن يعتدي على حق غيره.
ومن النصرة: ما يكون بالدعاء، والدعاء من المسلم للمسلم هو من الموالاة، والله سبحانه وتعالى أخبر أن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، والنبي عليه الصلاة والسلام لما هاجر إلى المدينة وسلم من قريش لم يترك إخوانه من الدعاء من المستضعفين بمكة، وكان يدعو لهم واحداً واحداً، كان يدعو لهم بأسمائهم، وكان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: (اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن أبي الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين)[رواه البخاري1006]، وهكذا، والنبي عليه الصلاة والسلام قد علمنا أن الضعفاء من خير من يستنصر بدعائهم، (أبغوني الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)[رواه أبو داود 2594 وصححه الألباني في صحيح الجامع41]، هذا الضعيف الذي لا يملك جاهاً، ولا مالاً ينفع إخوانه بأي شيء؟ بدعائه، وليحسن الظن برب العالمين، فالله يستجيب سبحانه وتعالى، وكذلك فإن من سعيك في حاجات إخوانك إذا علمت ظالماً لأخيك المسلم أن تندب إليه، وتنصحه، والله تعالى قال لموسى أن يذكر قومه بأيام الله، ومعنى وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ سورة إبراهيم5، أي: بما قدر الله تعالى، وأوقع من الوقائع السابقة التي فيها إهلاك الظلمة، {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ}بنعم الله العظيمة عليهم، ذكرهم بأيام الله، بقصص الظالمين، ونهايتهم، حتى يتعظ الظالم.
ومن النصرة: أن لا تكون عوناً لظالم على أخيك المسلم، والله قال: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُسورة هود113 ، وبعض السلف لما سمعها بكى، وقال: إذا قال ربنا: وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُسورة هود113، فكيف بالظالم نفسه، كيف يكون الظالم نفسه في هذه الحالة.
أما النصرة بالنفس؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قام إلى بني قينقاع اليهود مع أصحابه فقاتلهم؛ لأنهم آذوا مسلمة، ومشهور في السيرة أنهم عقدوا طرف ثوبها إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سؤتها فضحكوا، فقام المسلمون، وهكذا لما قامت امرأة من المسلمين تستغيث تقول - وهي هاشمية، آذاها النصارى قالت: وامعتصماه، فماذا فعل ذلك النصراني الخبيث؟ قال: دعي المعتصم يأتي على فرس أبلق لينصرك، فقام الخليفة لما سمع بذلك مستنصراً، وآمراً عساكر المسلمين ألا يخرجوا إلا على أفراس بلق، وذهب في أربعين ألفاً يفتح البلدان إلى عمورية فحاصرها، وضربها بالمنجنيق، واستمر الحصار خمسة وخمسين يوماً حتى استسلموا وسلموا المدينة للمسلمين، فطلب الخليفة إحضار المرأة فأحضرت في قيودها، فلما وقعت عينه عليها قام وقال: لبيكِ قد أجبت دعوتك في أربعين ألف أبلق، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ سورة الأنفال72.
اللهم ارزقنا نصرة إخواننا المسلمين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن يقوم بحق إخواننا يا أرحم الراحمين، اللهم أيدنا بتأييدك، ووفقنا بتوفيقك، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
نصرة إخواننا المستضعفين في العالم تكون بأمور أيضاً:
ومنها: التضرع إلى الله، وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَسورة الأنعام42، فإذا أحسسنا أن مصيبتهم مصيبتنا، وأن حزنهم حزننا، وأن شدتهم شدة علينا، فإننا سنقوم على الأقل بالدعاء لله سبحانه وتعالى.
وكذلك فإن النصرة بذكر قضاياهم، والدفاع عنهم، وإشهار حقوقهم، وتبيين المظالم التي وقعت عليهم، وتأييدهم في ساحات الإعلام المختلفة، إنه أمر عظيم، ومسؤولية كبيرة تقع علينا جميعاً، وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ سورة الأنعام55، والنبي صلى الله عليه وسلم، ما كان يترك أحداً من أصحابه قريباً، أو بعيداً إلا ونصره، وكذلك فإن المواساة والتصبير مما يقوم به المسلم لأخيه المسلم، وأن يحثه على الصبر، وأن يبين له الأجر، وهكذا.
إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ سورة الأعراف128، وكان كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه يسعون في إغاثة إخوانهم، وأن يمدوهم بطعام، وسقاء، ولباس، وكذلك بأنواع المال كلها.
وهذه النصرة من المسلم لأخيه المسلم كان الصحابة يقومون بها أفراداً، وجماعات، يقوم بها حسان في شعره، يقوم بها كذلك أبو بصير حتى في رد وكف وكسر شر المؤذين للمسلمين، وكذلك فإن المسلم إذا أحس بما يتألم به إخوانه فإنه والله سيقوم لله بما يستطيع.
فإلى متى يبقى فؤادك قاسياً *** وإلى متى تبقى بغير شعور
هلا قرأت ملامح الأم التي *** ذبلت محاسن وجهها المذعور
هلا استمعت إلى بكاء صغيرها *** وإلى أنين فؤادها المفطور
هلا نظرت إلى دموع عفافها *** وإلى جناح إبائها المكسور
إننا والله علينا مسؤولية كبيرة في نصرة إخواننا، وإنه يجب على كل مسلم أن يقوم بما يقوم به من المال، والجاه، وفي الإعلام، والتقنية، وفي الشعر، والنثر، وفي الرأي، والمشورة، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍسورة التوبة71، تراهم في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، هكذا شبههم عليه الصلاة والسلام.
والأمة فيها خير كثير، فيها أهل جاه، ونفوذ، وفيها أهل مال، وتجارة، وفيها أهل رأي، وخبرة، وفيها، وفيها من أنواع الطاقات الكثيرة، تملكها، وتستطيع بها أن تحقق مفهوم الجسد الواحد.
اللهم إنا نسألك أن تحيي قلوبنا بالإيمان، وأن ترزقنا حبك وحب من يحبك يا رحمن، اللهم فرج هموم المسلمين، ونفس كروب المستضعفين، وارفع البأس والشدة والبأس عنهم يا رب العالمين، اللهم ارحم إخواننا المستضعفين، اللهم ارحم إخواننا المستضعفين، وفك الحصار عن المحصورين، اللهم إنا نسألك في ساعتنا أن تنصرهم على القوم الظالمين، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم اعل كلمة الدين، وانصر عبادك الموحدين واجعل بلدنا هذا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين، من أراد بلدنا هذا بسوء فامكر به، ومن أراد بلاد المسلمين وأهل الإسلام بسوء فاجعل كيده في نحره، اللهم رده على عقبه صاغراً، واقطع دابره، وشتت شمله، اللهم إنا نسألك أن تقضي ديوننا، وأن ترحم موتانا، أن تشفي مرضانا، وأن تستر عيوبنا، اللهم آمن روعاتنا، احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
الشيخ محمد بن صالح المنجد حفظه الله