ومن رحمة الله تعالى.. أنه يرى عبده يعصيه.. فلا يعاجله بالعقوبة..
بل قد يبتليه بالأمراض والأسقام.. والمصائب والآلام.. ليرده إليه.. ويطرحه بين يديه..
فيقرع أبواب السماء بأنواع الدعاء.. طالباً كشف الضر ورفع البلاء..
والعبد كلما كان خائفاً تواباً.. منيباً لربه أواباً..
كانت رحمة الله أقرب إليه.. وفضل الله أوسع عليه..
يستجيب الله دعاءه.. ويكشف عنه بلاءه..
وقد روى الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة..
*********************** ***
ولا أنسى ذلك الشاب الذي عرفته أثناء دراسته الجامعية.. شاباً من أحسن من رأيت منظراً وقواماً.. يتفجر الشباب والصحة من جوانبه.. لكنه كان من عامة الشباب..
انقطعت العلاقة بيننا بعد تخرجه..
وذات يوم..
اتصل بي وطلب مني زيارته وقال : أنا لا أستطيع زيارتك.. ولا تسألني لماذا ! إذا جئتني عرفت السبب ! قال هذه العبارات بصوت حزين..
وصف لي طريق منزله.. طرقت الباب.. فتح لي أخوه الصغير.. ثم أدخلني إلى غرفة صاحبي..
فإذا هو على سرير أبيض.. بجانبه عكاز..وجهاز يُلبس في الرِّجل لأجل المشي.. ومجموعة من الأدوية..
أما هو فجسد متهالك.. ملقى على السرير.. حاول جاهداً أن يقف على قدميه للسلام.. لكنه لم يستطع..
جلست عند رأسه.. أدافع عبراتي..
قلت له : عفواً لم أعلم بمرضك من قبل ، ولكن ماذا أصابك ؟
ألم تتخرج من الكلية ؟
ألم تكن تحدثني أنك سوف تتزوج ، وتبني منزلاً.. وتشتري سيارة..
قال : نعم ، ولكن حدث ما لم يكن في حسباني..
تخرجت قبل أشهر معدودة ، وعملت في وظيفة مرموقة.. ومضت عليَّ الأيام.. لا يكدر صفوها إلا صداع ينتابني أحياناً..
ثم بدأ الصداع يشتد.. ويصاحبه ضعف في النظر..
حتى اشتدّ ذلك عليّ في أحد الأيام ، فذهبت إلى أحد المستشفيات.. فلما قابلني الطبيب ، عمل لي التحاليل..
ثم طلب إجراء أشعة دقيقة على الرأس..
فلما أجريت الأشعة.. أخذ يقلب أوراقها بين يديه.. وهو يردد : لا حول ولا قوة إلا بالله..
ثم رفع سماعة الهاتف ، واستدعى مجموعة من كبار الأطباء..
وبدؤوا جميعاً يقلبون نتائج التحاليل.. ويتأملون صور الأشعة.. ويتحدثون باللغة الإنجليزية ، ويسارقونني النظر..
مضت قرابة ساعة على هذا الحال.. وأنا في حال لا أُحسد عليه..
وكنت أقول في نفسي.. المسألة حلّها سهل : حبة أو حبتان من مسكن الصداع مع قطرة للعين ، وينتهي كل شيء !!
وفجأة التفت إلي أحدهم وقال :
اسمع يا فلان.. التقارير والأشعة تدل ! على أنك مصاب بورم في رأسك ،
حجمه يزداد بسرعة مُخيفة ، وهو الآن يضغط على عروق العين من الداخل ، وفي أي لحظة قد يزداد الضغط.. فتنفجر عروق العين.. فتصاب بالعمى.. ثم تصاب بنزيف داخلي في الدماغ.. ثم تموت !!..
صحت بأعلى صوتي..
يا دكتور !!.. ماذا ؟..كيف ؟..متى ؟..
كيف ورم ؟.. وأنا في هذه السن ؟
..أعوذ بالله !..سرطان ؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
قال : نعم ، ورم.. ولا بدّ من علاجه بسرعة ؛ الليلة ندخلك المستشفى ونكمل التحليلات اللازمة ، وفي الصباح نزيل جزءاً من عظم الجمجمة ونخرج الورم ثم نعيد العظم مرة أخرى..
ثم مدّ إليَّ أوراق العملية ! لأوقّعها.. فرفضت توقيعها.. وخرجت..
وأنا أدافع عبراتي.. وأتفكر.. أين أذهب ؟! إلى البيت..أم أرجع إلى المستشفى ؟
.. وبعد تفكير سريع قررت أن أذهب إلى مستشفى آخر..
وبعدما أجريت لي التحليلات والأشعة.. أجبرني الطبيب بما أخبرني به صاحبه.. وطلب المسارعة بإجراء العملية..
فكانت الصدمة عليّ أهون..
اتصلت بوالدي.. فحضر إليَّ في المستشفى..
شيخ كبير تجاوز السبعين.. فلما رآني فزع من وجوم وجهي..
فقلت له : تعلم يا أبي أني أشكو من صداع دائم.. والفحوصات تدلُّ على وجود ورم في الرأس ولا بدّ من إجراء عملية عاجلة..
سمع أبي هذه الكلمات فصاح :
لا حول ولا قوة إلا بالله..
ثم جلس على الأرض.. وهو يردد : إنا لله وإنا إليه راجعون.. إذاً نرسلك إلى أخيك في أمريكا..
قال هذه الكلمات وهو يتذكر معاناته منذ سنة كاملة مع أخي الأكبر الذي يعالج منذ سنة من مرض السرطان..
كم رأيت أبي يبكي في الهاتف وهو يكلمه.. كم كان يدعو له آخر الليل..
أخذت أنظر إلى أبي ودموعه تجري على خديه.. وهو يرى أولاده يموتون بين يديه..
فأخي خالد توفي قبل سنتين في حادث سيارة.. وأخي الأكبر يصارع الموت في أمريكا..
وأنا في أول طريق لا تعرف نهايته..
سافرت إلى أمريكا..
وصلنا إلى المستشفى.. عملوا لي الفحوصات بسرعة..
وفي الصباح أدخلوني غرفة العمليات..
حلق الطبيب شعر رأسي.. وبعد أن خدرني.. قطع فروة رأسي على هيئة دائرية.. ثم بدأ ينشر الجمجمة.. حتى نزع أعلاها.. ووضع العظم بجانبه.. ثم أخرج الورم..
مضت ساعة وساعتان.. والعملية تسير على ما يرام..
وفجأة.. اضطرب الدم في عروق الدماغ.. ثم توقف الدم في الشرايين وأصابتني جلطة في الدماغ..
فاضطرب الطبيب وحرّك - خطئاً - بعض أجزاء المخ.. فأصابني شلل نصفي في الجزء الأيسر من جسمي..
فلما رأى الطبيب ذلك أنهى ما تبقى من العملية بسرعة..
وأعاد عظم الجمجمة إلى مكانه.. وغطى بالجلد فوقه.. وخيّط المكان..
ثم حملوني إلى غرفة العناية المركزة الـ ( إنْ عاشَ )..
مكثت بعد العملية في غيبوبة تامة لمدة خمس ساعات..
ثم أصابتني جلطة في الرجل اليسرى.. فحملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري وعالجوا الجلطة.. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ )..
استقرّت حالتي أربع ساعات ثم أُصبت بنزيف شديد في الرئة..!!..
حملوني سريعاً إلى غرفة العمليات وفتحوا صدري مرة أخرى وعالجوا النزيف.. ثم أعادوني إلى غرفة الـ ( إنْ عاشَ )..
ضاق الطبيب بأمري ذرعاً.. أمراض متتابعة.. حالة متقلبة.. مفاجآت لا آخر لها..
استقرّت حالتي أربعاً وعشرين ساعة..
أحس الطبيب بشيء من الانتعاش والسرور..
وفجأة بدأت درجة حرارة جسدي ترتفع بشكل مخيف..
أجرى الطبيب فحصاً سريعاً عليَّ.. فاكتشف أن العظم الذي استخرج الورم من تحته قد أصابه التهاب شديد..!!
استدعى الطبيب فريق العمليات.. ثم حملوني كالجنازة.. وألقوني على سرير في غرفة العمليات..
بدأت أنظر إليهم.. لا أملك من أمري شيئاً..
رفعت بصري إلى السماء.. بكيت.. وأخذت أردد متضرعاً..
رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.. ثم رفعت بصري إلى السماء وقلت :
يا أرحم الراحمين.. إن كانت هذه عقوبة..
فأسألك الرحمة والمغفرة.. وإن كانت بلاء فارزقني الصبر على البلاء وعظم لي الأجر والجزاء..
ثم ذكرت هادم اللذات..والله لقد عظمت كربتي.. وذهبت قوتي.. وغداً يصبح التراب فراشي..
عكري محدود.. ونَفَسي معدود.. وجسمي عما قريب يأكله الدود..
آه إذا زلت يوم القيامة القدم.. وارتفع البكاء وطال الندم..
ويلي إذا قدمت على من يحاسبني على الصغير والكبير..
يوم تزل بالعصاة الأقدام.. وتكثر الآهات والآلام.. وتنقضي اللذات كأنها أحلام..
ثم بكيت.. نعم بكيت.. وتمنيت البقاء في الدنيا.. لا لأجل التمتع بها.. وإنما لأصلح علاقتي بربي جل جلاله..
وفجأة.. أقبل الطبيب إليَّ.. وأمر بتخديري تخديراً عامّاً..
ثم انتزع فروة الرأس التي تغطي العظم.. وأخرج العظم ووضعه جانباً.. ثم أعاد الجلد فوق الدماغ من غير عظم !!..
وبعد ساعات..
أفقت من إغمائي.. تحسست رأسي فإذا هو ليّن.. أين العظم ؟!..
سألت الطبيب : أين بقية رأسي ؟!!
فقال لي بكل برود : عظمك يبقى عندنا لتعقيمه.. وبعد ستة أشهر تعالَ إلينا لنعيده مكانه !!..
مكثت في أمريكا شهراً واحداً ثم رجعت إلى الرياض.. وهاأنذا أنتظر انتهاء الأشهر الستة لأستعيد بقية رأسي !!..
وقد كنت في غفلة عن حياتي.. منغمساً في أمر معاشي..
ناسياً الموت والبلى..
حريصاً على الحياة الدنيا..
أما اليوم فقد ولدت من جديد..
ومضت الأيام.. وشُفي من الشلل واستطاع المشي..
وبعد سبعة أشهر جئته زائراً فإذا وجهه متهلل مسرور..
وناولني بطاقة يدعوني فيها إلى زواجه..
وأعرفه اليوم من أحرص الناس على فعل الخير.. والدلالة عليه..
والدعوة إليه.. والمساعدة في طباعة الكتب وتوزيعها..
بل وفي الإحسان إلى الضعفاء.. ونجدة الفقراء..
إلى غير ذلك من وجوه الخير..
ورُبَّ محنة في طيها منحة..
* * * * * * * * *
من كتاب ذكريات تائب
للشيخ محمد العريفي
انشروووووووووووووه للفائدة
جزاكم الله خيرا