وكما أن في الرجال أبطال.. يصبرون على القيد والأغلال.. والرمي بالنبال..
ففي النساء كذلك.. صالحات قانتات.. منيبات صابرات.. علقن أنفسهن بالجنات.. وأحبهن رب الأرض والسموات..
منهن أم عمار بن ياسر.. سميةَ بنتِ خياط..
لها خبر عجب..
كانت أمة مملوكة لأبي جهل.. فلما جاء الله بالإسلام.. أسلمت هي وزوجها وولدها..
فجعل أبو جهل يفتنهم.. ويعذبهم.. ويربطهم في الشمس حتى يشرفوا على الهلاك حراً وعطشاً..
فكان صلى الله عليه وسلم يمر بهم وهم يعذبون.. ودماؤهم تسيل على أجسادهم.. وقد تشققت من العطش شفاههم.. وتقرحت من السياط جلودهم.. وحر الشمس يصهرهم من فوقهم..
فيتألم صلى الله عليه وسلم لحالهم..
ويقول : صبراً آل ياسر.. صبراً آل ياسر.. فإن موعدكم الجنة..
فتلامس هذه الكلمات أسماعهم.. فترقص أفئدتهم.. وتطير قلوبهم.. فرحاً بهذه البشرى..
وفجأة.. إذا بفرعون هذه الأمة.. أبي جهل يأتيهم.. فيزداد غيظه عليهم.. فيسومهم عذاباً..
ويقول : سبوا محمداً وربه.. فلا يزدادون إلا ثباتاً وصبراً..
عندها يندفع الخبيث إلى سمية.. ثم يستل حربته.. ويطعن بها في فرجها.. فتتفجر دماؤها.. ويتناثر لحمها..
فتصيح وتستغيث.. وزوجها وولدها على جانبيها.. مربوطان يلتفتان إليها..
وأبو جهل يسب ويكفر..
وهي تحتضر وتكبر.. فلم يزل يقطع جسدها المتهالك بحربته.. حتى تقطعت أشلاءً.. وماتت رضي الله عنها..
نعم.. ماتت..
فلله درها ما أحسن مشهد موتها..
ماتت.. وقد أرضت ربها.. وثبتت على دينها..
ماتت.. ولم تعبأ بجلد جلاد.. ولا إغراء فساد..
* * * * * * * * * *
أما أم شريك غزيةُ الأنصارية..
أسلمت مع أول من أسلم في مكة البلد الأمين..
فلما رأت تمكن الكافرين.. وضعف المؤمنين..
حملت هم الدعوة إلى الدين.. فقوي إيمانها.. وارتفع شأن ربها عندها..
ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعوهن إلى الإسلام.. وتحذرهن من عبادة ألأصنام..
حتى ظهر أمرها لكفار مكة.. فاشتد غضبهم عليها.. ولم تكن قرشية يمنعها قومها..
فأخذها الكفار وقالوا : لولا أن قومك حلفاء لنا لفعلنا بك وفعلنا.. لكنا نخرجك من مكة إلى قومك..
فتلتلوها.. ثم حملوها على بعير.. ولم يجعلوها تحتها رحلاً.. ولا كساءً.. تعذيباً لها..
ثم ساروا بها ثلاثة أيام.. لا يطعمونها ولا يسقونها.. حتى كادت أن تهلك ظمئاً وجوعاً..
وكانوا من حقدهم عليها.. إذا نزلوا منزلاً أوثقوها.. ثم ألقوها تحت حر الشمس.. واستظلوا هم تحت الشجر..
فبينما هم في طريقهم.. نزلوا منزلاً.. وأنزلوها من على البعير.. وأثقوها في الشمس..
فاستسقتهم فلم يسقوها..
فبينما هي تتلمظ عطشاً.. إذ بشيء بارد على صدرها.. فتناولته بيدها فإذا هو دلو من ماء..
فشربت منه قليلاً.. ثم نزع منها فرفع.. ثم عاد فتناولته فشربت منه ثم رفع.. ثم عاد فتناولته ثم رفع مراراً..
فشربت حتى رويت.. ثم أفاضت منه على جسدها وثيابها..
فلما استيقظ الكفار.. وأرادوا الارتحال.. أقبلوا إليها.. فإذا هم بأثر الماء على جسدها وثيابها..
ورأوها في هيئة حسنة.. فعجبوا.. كيف وصلت إلى الماء وهي مقيدة..
فقالوا لها : حللت قيودك.. فأخذت سقائنا فشربت منه ؟
قلت : لا والله.. ولكنه نزل علي دلو من السماء فشربت حتى رويت..
فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : لئن كانت صادقة لدينها خير من ديننا..
فتفقدوا قربهم وأسقيتهم.. فوجدوها كما تركوها.. فأسلموا عند ذلك.. كلهم.. وأطلقوها من عقالها وأحسنوا إليها..
أسلموا كلهم بسبب صبرها وثباتها.. وتأتي أم شريك يوم القيامة وفي صحيفتها.. رجال ونساء.. أسلموا على يدها..
* * * * * * * * * *
نعم.. أقوام هانت عليهم أنفسهم في سبيل الله..
فلم يلتفتوا إلى أجسادهم.. وإنما اهتموا بأرواحهم..
وإذا كانت النفوس كباراً ** تعبت في مرادها الأجسام
*********************** ***
من كتاب وداعا أيها البطل
للشيخ محمد العريفي