وما خلق الله العباد.. لأجل غناء وفساد..
وإنما خلقهم ليعبدوه.. ويحموا الدين وينصروه..
ومن عاش عيش المؤمنين.. ورفع راية الدين.. لم يلتفت إلى شيء من ذلك..
نعم لم يلتفت إلى رقص راقص.. ولم يستفزه عزف عازف..
بل أدرك سرّ وجوده في الحياة.. فعاش لأجله ومات..
وانظر.. إلى الذين يعيشون للإسلام.. يحيون من أجله.. ويموتون منه أجله.. ويسكبون دماءهم فداء له..
أقوام صالحون فطنا.. طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا..
بذلوا لربهم حياتهم.. وأنفقوا له موالهم.. وأذلوا بين يديه جباههم.. وفارقوا لأجله أوطانهم..
يأخذ ربهم من دمائهم.. يغسل بها سيئاتهم.. ويطيب حسناتهم..
وانظر إلى صهيب الرومي رضي الله عنه..
كان عبداً مملوكاً في مكة.. فلما جاء الله بالإسلام.. صدق وأطاع.. فاشتد عليه عذاب الكافرين..
ثم أذن النبي عليه الصلاة والسلام للمؤمنين بالهجرة إلى المدينة.. فهاجروا..
فلما أراد أن يهاجر معهم منعه سادة قريش.. وجعلوا عنده بالليل والنهار من يحرسه.. خوفاً من أن يهرب إلى المدينة..
فلما كان في إحدى الليالي.. خرج من فراشه إلى الخلاء.. فخرج معه من يرقبه..
ثم ما كاد يعود إلى فراشه حتى خرج أخرى إلى الخلاء.. فخرج معه الرقيب..
ثم عاد إلى فراشه.. ثم خرج.. فخرج معه الرقيب..
ثم خرج كأنه يريد الخلاء.. فلم يخرج معه أحد.. وقالوا : قد شغلته اللات والعزى ببطنه الليلة..
فتسلل رضي الله عنه.. وخرج من مكة.. فلما تأخر عنهم.. خرجوا يلتمسونه.. فعلموا بهربه إلى المدينة..
فلحقوه على خيلهم.. حتى أدركوه في بعض الطريق.. فلما شعر خلفه.. رقى على ثنية جبل..
ثم نثر كنانة سهامه بين يديه..
وقال :
يا معشر قريش.. لقد علمتم والله أني أصوبكم رمياً.. ووالله لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم بين يدي رجلاً منكم..
فقالوا : أتيتنا صعلوكاً فقيراً.. ثم تخرج بنفسك ومالك..
فقال : أرأيتم إن دللتكم على موضع مالي في مكة.. هل تأخذونه.. وتدعوني أذهب..
قالوا : نعم..
فقال : احفروا تحت أسكفة باب كذا فإن بها أواقي من ذهب.. فخذوه..
واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين من ثياب..
فرجعوا وتركوه..
ومضى يطوي قفار الصحراء.. يحمله الشوق ويحدوه الأمل.. في لقاء النبي عليه السلام وأصحابه..
حتى إذا وصل المدينة.. أقبل إلى المسجد فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. في المسجد..
وعليه أثر الطريق.. ووعثاء السفر..
فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام.. قال :
ربح البيع يا أبا يحيى.. ربح البيع يا أبا يحيى.. ربح البيع يا أبا يحيى....
نعم والله ربح البيع..
ولماذا لا يربح البيع.. وهو الذي هان عليه أن يترك المال الذي جمعه بكد الليل وتعب النهار.. ويترك الأرض التي ألفها.. والبلد التي عرفها.. والدار التي سكنها.. في سبيل طلب مرضاة الله..
ولماذا لا يكون جزاؤه كذلك.. وهو الذي لم يلتفت إلى لهو ومعازف.. ولم يدنس دينه ويقارف..
وإنما سمت به نفسه إلى سماع كلام الرحمن..والتقلب في الجنان..
قال الله..
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ )..
وعند أحمد بسند حسن.. عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
أن النبي عليه السلام.. خرج مع بعض أصحابه يوماً.. فلما برزوا من المدينة..
فإذا راكب يوضع نحوهم.. فصوب النبي عليه السلام إليه بصره.. ثم التفت إلى أصحابه فقال : كأن هذا الراكب إياكم يريد ؟ !
فأقبل الرجل على بعيره حتى وقف عليهم.. ثم أخذ ينظر إليهم..
فقال له النبي عليه السلام : من أين أقبلت ؟
فقال الرجل.. وهو يئن من شدة الطريق.. ووعثاء السفر.. : أقبلت من أهلي.. وولدى.. وعشيرتي..
فقال صلى الله عليه وسلم : فأين تريد ؟ قال : أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال : فقد أصبته..
فابتهج الرجل..وتهلل وجهه..وقال:يا رسول الله..علمني ما الإيمان ؟
قال : تشهد أن لا إله إلا الله.. وأن محمداً رسول الله..
وتقيم الصلاة.. وتؤتى الزكاة.. وتصوم رمضان.. وتحج البيت..
قال : قد أقررت..
فما كاد الرجل يتم إقراره بالإسلام.. حتى تحرك به بعيره..
فدخلت يد البعير في جحر جرذان.. فهوى البعير على الأرض.. وهوى الرجل من فوقه.. فوقع على هامته.. فما زال ينتفض حتى مات..
فقال النبي عليه السلام : عليَّ بالرجل..
فوثب إليه عمار بن ياسر.. وحذيفة.. فأقعداه فلم يقعد.. وحركاه فلم يتحرك.. فقالا : يا رسول الله.. قُبِض الرجل.. مات..
فالتفت إليه النبي عليه السلام.. ثم أعرض عنه فجأة..
ثم التفت إلى حذيفة وعمار.. وقال : أما رأيتما إعراضي عن الرجل..؟!
فإني رأيت ملكين ( وفي رواية رأيت زوجتيه من الحور العين ) يدسان في فيه من ثمار الجنة.. فعلمت أنه مات جائعاً..
* * * * * * * * *
نعم.. أقوام عرفوا للخالق حقه.. فصدقوا في حبه.. وتنعموا بقربه.. وشكروا له نعمته..
كلما زادت نعم الله عليهم.. ازدادوا لفضله شكرا.. وله حبا وتعبداً..
من كتاب : ألحان وأشجان
للشيخ : محمد العريفي
انشروووووووووووووووه للفائدة
جزاكم الله خيرا