ألهاكم التكاثر
خالد راتب
تبارَك الذي كتَب البقاء لذاته، والفَناء على خَلْقه، وخلَق الموت والحياة؛ ليبلوَنا أيُّنا أحسن عملاً؛ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)[الملك: 1 - 2].
فسبَق العدمُ الْخَلق، وجاءتِ الحياة بعد موتٍ، ثم تنتهي الحياة بموت، فالإنسان بين موت وحياة؛ (وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)[البقرة: 28].
وهذا يحتم علينا أن نتذكَّر بداياتنا، وأنْ نتذكَّر نهايتنا، فنحن أمواتٌ أبناء أموات؛ قال أبو نُوَاس:
أَلاَ يَا ابْنَ الَّذِينَ فَنَوْا وَمَاتُوا *** أَمَا وَاللهِ مَا مَاتُوا لِتَبْقَى
ذلك ما كنتَ منه تَحيد؛ قال - تعالى - : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجمعة: 8].
يقول الماوردي في تأويل قوله - تعالى -: (تَفِرُّونَ مِنْهُ).
يحتمل أربعة أوجه:
أحدها: معناه تفرُّون من الدَّاء بالدواء؛ فإنه مُلاقِيكم بانقضاء الأجل.
الثاني: تفرون من الجهاد بالقعود؛ فإنه مُلاقيكم بالوعيد.
الثالث: تفرون منه بالطِّيَرة من ذِكْره حذَرًا من حُلوله؛ فإنه مُلاقيكم بالكُره والرضا.
الرابع: أنَّه الموت الذي تفرون أنْ تتمنوه؛ حين قال - تعالى-: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ)[البقرة: 94].
إنَّ الإنسان يحاول الفرار من هذه الحقيقة وكلُّه خوفٌ وقلق، ولكنْ لا مَفَرَّ؛ (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)[ق: 19].
يقول الطبري: "هذه السكرة التي جاءَتْك - أيُّها الإنسان - بالحقِّ، هو الشيء الذي كنت تهربُ منه، وعنه تروغ".
فمهما فرَّ الإنسان وحاد، فإنَّ الموت أمامه يُلاحقه في طريقه، فيخرج من بيته ولا يعود إليه مرَّة أخرى، أو يدخل بيته ولا يَخرج منه مرة أخرى، إلاَّ محمولاً على الأكتاف، أو يأتيه الموت وهو على فراشه بين أهله وأحبَّائه، إنه الموت الذي لا يؤخّر، ولا يُمهل أحدًا؛ سُئِل بعض الْحُكماء عن دارٍ بناها، وقال: هل ترى فيها عيبًا؟ فقال: نعم، عيبًا لا يُمكنك إصلاحه، فقال: وما هو؟ قال: لك منها خرجة لا عودَ بعدها، أو دخلة لا خروجَ بعدها.
الموت مصيبة؛ (أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة: 106].
هذه المصيبة التي تَنتظر كلَّ إنسان، تنتظر الهَرم والشاب، والصغير والكبير، إنَّها حقًّا مصيبة تدخل كلَّ بيت، وتُحيط بكلِّ مكان؛ لذا فإنَّ كثيرًا من الناس على جهة العموم يكرهون الموت، إلاَّ في حالة واحدة فقط يحبُّ فيها الإنسان أن يموتَ، وهي: إذا بُشِّر بما عند الله من الرحمة والنعيم والإحسان، فيأمن ساعتها، فيحب لقاءَ الله، وهذا ما جاء صراحة في الحديث؛ فعن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن أحبَّ لقاء الله، أحبَّ الله لقاءه، ومن كَرِه لقاءَ الله، كَرِه الله لقاءَه))، قالتْ عائشة أو بعض أزواجه: "إنَّا لنكره الموت"، قال: ((ليس ذاك، ولكن المؤمن إذا حضَره الموت، بُشِّر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحبَّ إليه مما أمامه، فأحبَّ لقاءَ الله وأحبَّ الله لقاءَه، وإنَّ الكافر إذا حضر، بُشِّر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكرَه إليه مما أمامه، فكَرِه لقاء الله، وكَرِه الله لقاءه))؛ متفق عليه، واللفظ للبخاري.
لماذا نفِرُّ من الموت؟!:
إننا إذا أردْنا أن نحصرَ سببَ محاولة الفرار من الموت - إمَّا بنسيانه، أو عدم الاستعداد له - فسوف نجد أنَّ السبب هو: "ألهاكم التكاثُر"، فإن التكاثُر في جَمْع المال وغيره ألْهَى الناس وشغَلهم عن الآخرة والاستعداد لها، فتوعَّدهم الله - تعالى - على ذلك بقوله: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)[التكاثر: 1 - 3].
أي ألْهَاكم التكاثُر بالأموال والأولاد إلى أنْ مُتُّم وقُبِرتُم مُضَيِّعين أعمارَكم في طلب الدنيا عمَّا هو أهمُّ لكم، وهو السعي لأُخراكم، فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت، وفي صحيح مسلم من حديث عبدالله بن الشِّخِّير أنه قال: انتهيتُ إلى النبي وهو يقرأ: ألْهَاكم التكاثُر، قال: ((يقول ابنُ آدمَ: مالي مالي، وهل لك من مالك إلاَّ ما تصدَّقْت فأَمضيتَ، أو أكلتَ فأفْنيتَ، أو لَبِستَ فأبْليتَ)).
وروى مسلم أيضًا من حديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكَل فأفنَى، أو لبس فأبْلَى، أو أعطى فاقْتَنى، وما سوى ذلك، فهو ذاهبٌ وتاركه للناس)).
يقول ابن القيم: "فكل مَن شغَله وألْهَاه التكاثر بأمرٍ من الأمور عن الله والدار الآخرة، فهو داخل في حُكم هذه الآية، فمن الناس مَن يُلهيه التكاثر بالمال، ومنهم مَن يلهيه التكاثر بالجاه أو بالعلم، فيجمعه تكاثُرًا وتفاخُرًا، وهذا أسوأ حالاً عند الله ممن يكاثر بالمال والجاه، فإنه جعَل أسباب الآخرة للدنيا، وصاحب المال والجاه استعمل أسبابَ الدنيا لها وكاثَر بأسبابها"؛ "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين"، ص 171.
كما أنَّ تعلُّقنا بالدنيا التي عمَّرناها، والآخرة التي نسيناها سببٌ أساس في كراهيتنا للموت والفرار منه، فقد حُكِي أنَّ سليمان بن عبدالملك قال لأبي حازم: ما لنا نكره الآخرة، قال: "لأنَّكم عمَّرتُم الدنيا وخرَّبتم الآخرة، فتكرهون الانتقال من العمران إلى الخراب، فقال: صدقتَ يا أبا حازم، فيا ليتَ شعري، ما لنا عند الله - تعالى - غدًا، قال: إنْ شئتَ تعلم ذلك، ففي كتاب الله، فقال: أين أجده؟ فقال: في قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار: 13 - 14].
قال: فكيف يكون العَرْض على الله - تعالى؟ فقال: أمَّا المحسن، فكالغائب يَقْدَمُ على أهْله مسرورًا، وأمَّا المسيء، فكالآبق يَقْدَمُ على مَوْلاه محسورًا، فبكى سليمان بكاءً شديدًا"؛ "روح البيان"، (5 / 253).
فمَن ألْهَته الدنيا بزينتها وكَثرة شهواتها، فليتذكَّر حقيقة الدنيا وحقيقة نفسه، وما ينتظره أثناء الموت وبعده في قَبْره، ويوم العرْض على ربِّه، أما عند موته، فإمَّا أن يسمع: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر: 27 - 30].
ويسمع بُشرى الملائكة له: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ)[فصلت: 30 - 32].
وعند نزوله في القبر يُفسح له، ويُنير بعمله، فساعتها يقول: "ربِّ، أقمِ الساعة".
وإمَّا الأخرى: أنْ يسمع التوبيخ والتقريع: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)[النحل: 28- 29].
ويسمع: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 40 - 41].
ويضيق عليه قبْره حتى تختلف ضلوعه، ويجد الظُّلمة والوَحْشة، وتُرَد إليه رُوحه الخبيثة؛ ليرى العذاب الأليم، فساعتها يقول: "ربِّ، لا تُقم الساعة".
لِمَن تجمع؟!
التنافس من أجْل الدنيا مرضٌ إذا استحكَم في قلب العبد أهلكه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخْشى أنْ تُبسط عليكم الدنيا، كما بُسطتْ على مَن كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُلهيكم كما ألْهَتْهم))؛ رواه البخاري.
فلينتبه العقلاءُ الذين يكنزون الأموال ولا يؤدون حقَّها، ويَجمعون الأموال من حرام، أقول لهم: "لِمَن تجمعون؟ "، إنَّكم تجمعون الأموال لغيركم؛ كي يتمتعوا بها، فالمال سيُقسمُ، والدار ستُسْكن؛ مرَّ أمير المؤمنين بمقابر الكوفة، فقال: "السلام عليكم أهْل الديار الموحشة، والمَحال المقفرة، أنتم لنا سلفٌ، ونحن لكم تبعٌ، أما الأزواج، فقد نُكحتْ، وأما الديار، فقد سُكِنتْ، وأما الأموال، فقد قُسِمتْ، هذا خبرُ ما عندنا، فما خبرُ ما عندكم؟ ثم التفتَ إلى أصحابه، فقال: أما إنَّهم لو تكلَّموا، لقالوا: وجدنا خيرَ الزاد التقوى".
فيجب عليك أن تتذكَّر الموت باستمرار، وألاَّ تُلهيك الأموال والأولادُ والمناصب، ولا الدنيا كلُّها عن طاعة الله وذِكره، وأنْ يكون جسدُك هنا وقلبُك في الآخرة؛ تنام في القصْر، وقلبك في القبر، تنام على الفراش الوفير، وقلبُك في القبر الضَّيِّق، تنام على النور، وعينك على الظُّلمة في القبور