فقه المرحلية عند عبد الحميد بن باديس رحمه الله للعبرة
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه المرحلية عند عبد الحميد بن باديس رحمه الله
د.محمد العبدة
مقدمة
كُتب الكثير عن حياة الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد النهضة الإسلامية في الجزائر في العصر الحديث. ولكن حركة الشيخ وتأسيس جمعية العلماء ما تزال مصدرًا مفيدًا للتأمل والاستفادة فقد أصابت هذه التجربة النجاح بنسبة عالية، وقد لاحظ الشيخ نفسه أهمية ما قام به فذكره ربما حتى لا ينتقص مِنْ هذا العمل الدؤوب،
فقال: "لم تقم في أمة إسلامية هيئة علمية منظمة تعلن الدعوة إعلانا عاما وتصمد للمقاومة غير الأمة الجزائرية؛ فكان من علمائها الأحرار المستقلين أولئك الذين نهضوا بالدعوة الإصلاحية وجاهدوا وصابروا وأسسوا لها مؤسسة دينية حتى أصبحت الدعوة الإصلاحية - والحمد لله- ثابتة الأركان باسقة الأفنان." (تركي رابح: الشيخ بن باديس/ 146).
إن تجربة جمعية العلماء تستحق الدراسة لأنها لم تأت عفوية نتيجة حدث أوردّ فعل، إنما جاءت بعد تخطيط وتفكير عميق وبعد دراسة وتأنٍ، كانت البداية عام 1913 م، ولكن الجمعية لم تقم إلا عام 1931م فقد انتظر الشيخ حتى تنضج الفكرة وتأخذ حقها من التريث والدراسة وجمع الكلمة.
نبذة عن حياته
ولد الشيخ في مدينة قسنطينة من مدن شرقي الجزائر عام هـ 1308- 1889 م من أسرة ذات جاه وشهرة، ترجع في أصولها إلى المعز بن باديس مؤسس الدولة الصنهاجية، وكان والد ابن باديس عضوًا في المجلس الجزائري الأعلى.
- درس في قسنطينة على يد المشايخ ولم يلتحق بالمدارس الفرنسية، وحفظ القرآن على الشيخ محمد المداسي وبعدها انتقى له والده أحد الشيوخ الصالحين، وهو الشيخ حمدان الونيسي فدرس معه مبادئ العربية والعلوم الإسلامية،وقد أوصاه بأن يقرأ العلم للعلم لا للوظيف ولا للرغيف وأخذ عليه عهدًا ألا يقرب الوظائف الحكومية عند فرنسا وقد نفذ ابن باديس وصية شيخه تنفيذًا كاملاً.
- ارتحل إلى "جامعة الزيتونة" في تونس عام 1908م وبعد أربع سنوات نال شهادة ( العالمية) وكان من أبرز شيوخه: محمد النخلي، والطاهر بن عاشور، والبشير صفر، و الخضر حسين.
- في عام هـ 1332- 1913 م ارتحل إلى الحجاز لأداء فريضة الحج والالتقاء بأستاذه الونيسي. وفي المدينة النبوية التقى لأول مرة بالشيخ البشير الإبراهيمي العالم والأديب الجزائري الذي سبقه إلى المدينة عام 1911م. يقول الإبراهيمي: "وكنا نؤدي فريضة العشاء كل ليلة في المسجد النبوي، ونخرج إلى منزلي فنسمر مع الشيخ ابن باديس منفردين إلى آخر الليل حين يفتح المسجد، فندخل مع أول داخل لصلاة الصبح، ويشهد الله على أن تلك الليالي هي التي وضعت فيها الأسس الأولية لجمعية العلماء "
- رجع الشيخ إلى الجزائر في العام نفسه وبدأ بتطبيق برنامجه وخطته التي وضعها، وهي تعليم النشء في المسجد والدروس تبدأ بعد الفجر وتستمر طيلة النهار، وبعد العشاء يدرس الكهول والشيوخ من أهالي قسنطينة يفسر لهم القرآن.
- أسس مع الإبراهيمي وآخرين جمعية العلماء عام 1931م وكان لها دور بارز وكبير في نهضة الجزائر.
- في عام 1938م احتفلت الجزائر كلها بختم الشيخ لدروس تفسير القرآن الذي أتمه خلال خمسة وعشرين عامًا.
- توفي الشيخ رحمه الله في عام هـ 1359-1940 م.
الأهداف والمرحلية:
كما يقال (ابدأ والنهاية في ذهنك) فإن الأهداف البعيدة المدى كانت واضحة منذ لقاء ابن باديس للإبراهيمي يقول الأخير: " كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس في اجتماعنا بالمدينة في تربية النشء هي: ألا نتوسع له في العلم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا.
(د. محمود قاسم: الإمام عبد الحميد بن باديس/27)
ومن الأهداف البعيدة لجمعية العلماء:" إنشاء جيش من الشباب يحمل فكرة الجمعية وعقيدة الإسلام، وأن يكون هؤلاء نقاط جذب لمئات الآلاف من أنصار الفكرة وحملة العقيد!!.
إن تشخيص الداء واضح عند هذين الزعيمين، يقول الإبراهيمي:" إن البلاء المنُصبّ على هذا الشعب آت من جهتين متعاونتين عليه يفسدان عليه دينه ودنياه: استعمار مادي (فرنسا)، واستعمار روحاني (مشايخ الطرق) المؤثرون في الشعب، المتجرون باسم الدين، والاستعماران متعاضدان يؤيد أحدهما الآخر، وغرضهما تجهيل الأمة لئلا تفيق بالعلم، وتفقيرها لئلا تستعين بالمال على الثورة، وكان من سداد الرأي أن تبدأ الجمعية بمحاربة الاستعمار الثاني لأنه أهون"( المصدر السابق/25 ).
والبداية بالأضعف عدا عن دلالتها على وضوح فكرة المرحلية عند الشيخ والجمعية فهي كذلك محاصرة للاستعمار الأول وفضح أعوانه وتنحيتهم طائفة بعد أخرى؛ لأن محاربة الطرقية ستظهر كدعوة دينية بحتة لتنقية الإسلام من البدع، ولا دخل لها بمحاربة فرنسا.
المرحلة الأولى
بعد رجوع ابن باديس إلى الجزائر من رحلته العلمية ورحلته إلى الحجاز ركز جهوده كلها على التربية والتعليم،وقد بدأ بداية بسيطة في مسجد "سيدي قموش" وفي " الجامع الكبير" في قسنطينة. كان النهار كله للأطفال والشباب،يعلمهم العربية وأمور دينهم، وفي المساء تفسير القرآن للكهول والشيوخ، وتقاطر عليه الناس يستفيدون من علمه.منعته فرنسا من دروس "الجامع الكبير" فانتقل إلى "الجامع الأخضر" وقد استعان بوجاهة والده لدى الحكومة فأذنت له بالتدريس، وربما ظنت فرنسا أنه شيخ مثل بقية الشيوخ لا خطر، منه أو أنها سكتت عنه احترامًا لوالده.
كانت هذه السنوات تأسيسًا وإرهاصًا لنشوء جمعية العلماء، وفي هذه الفترة كانت المشاورة مستمرة مع الشيخ الإبراهيمي وكان اللقاء كل أسبوعين.
يقول الإبراهيمي:" فنزن أعمالنا بالقسط، ونزن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا و نضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يخل أبدا."
بعد أن أحس ابن باديس بصلابة الأرض تحت قدميه بدأ بالهجوم على الطرق الصوفية الذين ارتضوا لأنفسهم ما ارتضته لهم فرنسا، وأصدر جريدة (المنتقد) عام 1925م.
واسمها يدل على ما يهدف إليه الشيخ، وتنبهت الإدارة الفرنسية إلى خطر هذا المصلح الذي يهاجم أعوانها فأصدرت قراراً بتعطيل الجريدة بعد أن صدر منها ثمانية عشر عددًا، ولكن الشيخ كان قد بدأ مشروعه وسار فيه شوطًا وقد فات الأوان على فرنسا أن تحاصره أو توقف عمله.
في هذه المرحلة كان الشيخ حذرًا في التعامل مع فرنسا ويتكلم بلهجة واقعية ويطالب بمطالب بسيطة، فهو يطالب فرنسا بتطبيق دستورها وألا تكيل بمكيالين.
يقول في المقال الافتتاحي في العدد الأول من جريدة المنتقد: "نحن قوم مسلمون جزائريون في نطاق مستعمرات الجمهورية الفرنسوية، فلأننا مسلمون نعمل على المحافظة على تقاليد ديننا،وإن الحكومة التي تتجاهل دين الشعب تسيء في سياسته، ولا نعني بهذا أننا نخلط بين الدين والسياسة في جميع شؤوننا وإنما نعني اعتبار الدين قواما لنا وملجأ شرعيًا لسلوكنا، ولأننا جزائريون نعمل للم شعث الأمة وترغيبهم في العلم والعمل المفيد، ولأننا مستعمرة نسعى لربط أواصر المودة بيننا وبين الأمة الفرنسية ونحن ندعو فرنسا إلى ما تقتضيه مبادئها الثلاثة: الحرية ،المساواة، الأخوة" (محمد الميلي:ابن باديس وعروبة الجزائر/161)
فالخطاب واضح: الجزائر تابعة لفرنسا إداريًا وتمد لها يد الصداقة لتفيد منها في النهضة الاقتصادية والسياسية ،ولكن الجزائر مسلمة، وهذه هويتها ويقول تعليقا على قانون 1865 :"قضى قانون1865 اعتبارنا فرنسيين ولكنه نفذ تنفيذا جائراً فيفرض علينا جميع الواجبات دون حقوقها."
المرحلة الثانية
بعد إقفال جريدة (المنتقد) أصدر الشيخ جريدة (الشهاب) التي احتفظ بها حتى وفاته وكانت أسبوعية ثم تحولت إلى شهرية وكان يصدرها أحيانا بدروسه في التفسير، وأصدر صحفًا أخرى مثل: الشريعة، السنة المحمدية، الصّراط، ولم تعمر طويلا؛ فقد أوقفتها الإدارة الفرنسية، وبدأت نبرة الانتقاد للطرق الصوفية، وعملاء فرنسا تعلو وبعد تأسيس جمعية العلماء وحتى لا يحرج الجمعية كان إذا أراد مهاجمة الاستعمار الفرنسي يقول: اتركوا لي هذا الأمر شخصيًا وكان ذلك على صفحات (الشهاب).
من أبرز أعمال هذه المرحلة تأسيس جمعية العلماء الجزائريين التي تكللت بالنجاح وتأتي في قمة عطاء ابن باديس والإبراهيمي وغيرهم من العلماء كالشيخ العقبي والتبسّي. كان ذلك في عام 1931 م بعد مرور قرن على الاحتلال الفرنسي لهذا القطر العربي الإسلامي، وبعد أن ظنت فرنسا أنها ألحقت الجزائر بها سياسيًا وثقافيًا إلى غير رجعة،وكتب الكاردينال(لافيجري) في احتفالات سنة 1930:"إن عهد الهلال في الجزائر قد غبر"، وإذا بها تفاجأ بعمل كبير كان له أكبر الأثر في أجيال قاومت فرنسا وحفظت للجزائر دينها ولغتها.
كتب الإبراهيمي عن تأسيس الجمعية:" دعونا فقهاء الوطن كلهم، وكانت الدعوة صادرة باسم الأمة كلها، وليس فيها اسمي ولا اسم ابن باديس،لأن أولئك الفقهاء كانوا يخافوننا لما سبق من الحملات الصادقة على جمودهم ،فاستجابوا جميعا للدعوة واجتمعوا في يومها المقرر، ودام اجتماعنا في "نادي الترقي" بالجزائر أربعة أيام، وانتخب ابن باديس رئيسًا وجاء دور العمل.
( محمود قاسم : ابن باديس /23).
كان هذا الاجتماع بعد تمهيد طويل ونتيجة تشاور واتصالات وإقناع وبعد أن نفخ ابن باديس في المسلمين روح الاجتماع والشورى، يقول:"ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم أمر الاجتماع ونظامه، فعلى أهل العلم- وهم المسؤلون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم - أن يقوموا بما أرشدت إليه الآية (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه)[ النور :62].
وحتى ينجح هذا المشروع الكبير فإن الشيخ أراد أن يسير به بحذر وتؤدة وجنبه الألغام فكان من دستور الجمعية أنه لا يسوغ لها بأي حال من الأحوال أن تخوض في الأمور السياسية،
ومن أهدافها:محاربة الآفات الاجتماعية كالخمر والميسر، وكل ما يحرمه الشرع وينكره العقل.
وكان هذا ستارا رقيقاً، أما المضمون والواقع فإن الجمعية خاضت في السياسة بطريقة أخرى عندما أنشأت المدارس العربية في مدن الجزائر وقراها، وعندما نادت بالأخوة الإسلامية وحقوق الإنسان ومناهضة الظلم والاستعباد، نعم، لم يبدأ الشيخ بالعمل السياسي الذي هو عند البعض خطب ومظاهرات لا تجدي مع هذا الاستعمار وإنما خطته محاصرة هذا الاستعمار وتقويض أهدافه شيئًا فشيئًا.
كانت مبادئ الجمعية واضحة: القرآن هو كتاب الإسلام، السنة القولية والفعلية تفسير وبيان للقرآن، التوحيد أساس الدين،
وأما إنجازات الجمعية فكثيرة جدًا ومن أهمها:
إحياء المفاهيم الإسلامية، وإنشاء المدارس، ونشر العلم وإحياء اللغة العربية. وظل الشيخ يعتبرها غير سياسية، فعندما هاجمت جريدة ( الطان) الفرنسية جمعية العلماء بأنها تثير الناس ردّ عليهم :" ثم ما شأن جمعية العلماء في هذا الأمر وهي جمعية دينية تهذيبية بحتة، بعيدة كل البعد عن السياسة؟ ( الميلي : ابن باديس وعروبة الجزائر/186).
وقد فطن أحد الكتاب الفرنسيين لخطورة ابن باديس وجمعيته رغم إعلانه أنها غير سياسية فكتب محذرًا:" هل يمكن أن نقول: إن جمعية العلماء ملية (وطنية جزائرية) نعم، ولكن هذه الملية لا تظهر مباشرة، فالعلماء يحملونها في صدورهم، إن سياستهم تنحصر في المرابطة بحصن الثقافة والدين وهكذا يتدخلون في كل شيء.
المرحلة الثالثة
بعد قيام الجمعية وتقوية نفوذها بدأت لهجة الشيخ في معارضة فرنسا تزداد حدة،ففي سنة 1933م كتب إلى الوالي الفرنسي متهما إياه بالتدخل في الشؤون الدينية لمسلمي الجزائر على نحو مخالف للدين وللقانون الفرنسي، ثم يوجه الشيخ نداء إلى الأمة أن لا تتبع السياسة العتيقة، سياسة المطالبة والانتظار تجاه دولة تخلف وعودها،ويدعو إلى سياسة المقاومة السلمية مثل مقاطعة الانتخابات وحدد يوما للبدء بحركة المقاومة، وقد ثار المستعمرون الفرنسيون على نداء ابن باديس فكتب يرد عليهم:" لم يسؤني ما علقتم به من عبارات الحقد والتحريش، وأريد أن أحقق لكم أن تحرشكم لا يخيف صغارًا من تلامذتنا فمن باب أولى ألا يكون له أدنى تأثير في كبارنا، ومن المؤسف أنكم لا تدركون تطورات الأمم وتقلبات الأيام." (محمود قاسم : ابن باديس/73).