في مقتبل الشباب.. وبداية
الحياة..
في السابعة عشر من عمري..
لديّ كل شيء.. المال..
الأصدقاء.. الفراغ..
نعم الفراغ.. لم أكن أحضر
المدرسة إلا لماماً.. مدرسة
خاصة.. تطلب رضاي قبل أن
أطلب رضاها.. وتخطب ودّي
قبل أن أخطب وُدّها.
أحب التغيير في كل شيء..
الثياب لا تبقى على جسدي
إلا يوماً واحداً.. السيارة لا
تمكث معي إلا بقدر ما تأتي
صرعة أخرى.. قصة الشعر..
الساعة.. الحركة.. النكتة.. كل
شيء.. كل شيء.. إلى تغيير..
أنا ملولٌ بطبعي..
لا أحب أن استمر على شيء
واحد دائماً.. حتى أصدقائي..
أسبوع أو أسبوعان.. على
الأكثر شهرٌ.. ثم أبحث عن
غيرهم.
أما المنزل.. فهو على النظام
الغربي.. عفواً.. لا أقصد هيكله
وجدرانه وأثاثه.. لا.. بل أقصد
نظامه الداخلي أهلي يثـقون
بي يتركون لي تمام
التصرف.. وكمال الحرية.
هوايتي المغامرات.. أشرطة
الفيديو عندي تدور حول
الأفلام البوليسية والمطاردات
واللصوص..
لكن.. بدأ الملل يتسرب إلى
نفسي.. حياتي كما هي..
ساكنة راكدة بخلاف طبيعتي
الهائجة النشطة.
فكرة!!
لماذا لا أذهب إلى ياسر !!
فروحه كروحي مغامر من
الدرجة الأولى وآخر ما يفكر
فيه حياته.. ثم إنه عبقري..
بعد لحظات.. في منزل ياسر.
كيف حالك يا ياسر؟
تمام.. وأنت كيف حالك يا
ماجد؟
حالي واقف.. طفش.. الحياة
ساكنة.. والدنيا ثابتة.. عجيب !!
هل تعرف يا ماجد أنني أشعر
تماماً بما تشعر به.
وهل وجدت حلاً يا ياسر.
كيف لا أجد.. وأنا أنا !!
هاه.. قل لي.. أسرع.. أخبرني.
الحل بسيط.. نأخذ سيارتك..
نمضي إلى الخط السريع
المظلم.. نقف جانباً.. نرفع
غطاء السيارة.. لا حول ولا
قوة إلا بالله.. السيارة معطلة..
ننتظر قليلاً.. ستقف سيارة..
صاحبها له قلب كبير.. يخرج
من السيارة. يلقي السلام
علينا.. نضربه.. نأخذ ما عنده
من مال.. نركب سيارتنا. ثم..
ثم نفحّط عليه !!!
ما رأيك يا صديقي ماجد..
كالأفلام تماماً
ولكن.. ولكن هذا أمر خطير..
مخيف.. !!
لسبب واحد.. هو أنك جبان!!
هاه.. لا.. لا أنا لست جباناً..
وإن شئت قمنا الآن.
لا لا ياصديقي.. مازال الوقت
مبكراً..
سوف نمضي لأداء المهمة بعد
العشاء.. الساعة العاشرة
تماماً.. تمرّ عليّ هنا
بسيارتك.. ثم نذهب..
اتفقنا..
اتفقنا..
خرجت من عند ياسر، وقلبي
يرقص رقصة عجيبة.. لا
أدري.. هل هي رقصة الخوف
من هذا الأمر الذي لم أجربه
قبل الآن.. أم هي رقصة
الفرح.. لأنني سأغير بعضاً من
روتين حياتي الممل وجدولي
الرتيب.
عزمت على خوض هذه
المغامرة.
مررت على ياسر..
الزمن : العاشرة مساءً.
المكان: الخط السريع المظلم.
أوقفنا السيارة على جانب
الطريق.. رفعنا غطاء
السيارة.. وانتظرنا الزبون
القادم.. إنها ليلة مظلمة.. سواد
سمائها.. كسواد قلوبنا
الشريرة البلهاء.
بعد دقائق..
جاء ذو القلب الكبير.. يَمُدُّ يد
المساعدة..
خرج من سيارته.. في
الخمسين من عمره.. سليم
الفطرة.. طيب القلب.. منير
الوجه.. تزين وجهه لحية
بيضاء.. تعكس صفاء قلبه
الأبيض.
السلام عليكم.. سلامات يا
شباب..
لم يُكمل..
ضربه ياسر من الخلف.. ضربته
من الأمام.
سقط !!!
بحثنا عن المال في جيبه..
في السيارة..
آه !! حقيبة..
أخذنا الحقيبة.. وانطلقنا
كالريح..
تسعة آلاف ريال.. إنه مبلغ لا
بأس به.. لكنه لم يكن هدفنا..
فهدفنا المتعة والمغامرة وقد
وجدناها.
في رمضان.. في السابع
والعشرين منه لم يبق للعيد
سوى أيام قليلة..
جرس المنزل.. يدق
إنها دقات غريبة.. دقات حُبلى
بالقلق والخوف، استقر بصري
على الباب وتلعثم لساني..
نزل العرق كثيراً.. على غير
المعتاد.
أين ماجد؟
لحظات فقط..
ولم أر إلا الدموع.. ولم أسمع
إلا البكاء.
أية فضيحة.. وأية مفاجأة..
وأية حسرة..
أمي.. سيل دموع
تمسك بثياب الشرطي.
أين ستذهبون بماجد.. إنه ابني..
هنالك ألف ماجد غيره..
رعاك الله يا أمي.. نعم هناك
ألف ماجد ولكن.. لا يوجد
هناك إلا ماجد مجرم واحد.
هو أنا...
وأنا في سيارة الشرطة..
صورة.. لن تُمحى من ذاكرتي..
أمي على الباب تبكي..
الجيران ينظرون من النوافذ..
لا أدري.. أكان الوقت صباحاً
أم مساءً. كل الذي أعلمه.. لون
الموقف أسود.. كلون الظلم
والإجرام والعقوق..
أسود.. كلون المعصية.
دخلت السجن.. بثياب الذل..
وأسورة المهانة.. بناء عجيب..
بعد الإجراءات.. عنبر (5) عنبر
الشباب.. صليل السلاسل يقلق
أذني الرقيقة المدللة.. إنه
صوت رهيب.. لعله نوع من
التعذيب.
فُتح الباب.. النظرات تتجه
إليّ.. وأنا صامت..
مضت الأيام ثقيلة كالجبال..
حزينة كالموت.
أمي تزورني في الأسبوع
مرة.. تغيّر صوتها من البكاء..
ولون عينيها من الدموع. وأنا
صامت.
لا يخلو أسبوع.. إلا وتأتيني
بالملابس.. وأنواع المطاعم
والمشارب.. أدخل العنبر.. الكل
ينظر ماذا بيدي..
أقسمه بينهم.. وأنثره بين
أيديهم.
لم أعد أشعر بطعم الجوع،
ولم أعد أتلذذ بلذة اللبس. وأنا
صامت.
نزور النور مرة واحدة في
الأسبوع.. نرى فيها الشمس
والهواء ساعة واحدة فقط..
ذات مرة.. فُتح الباب.. الكل
ينظر.. صوت السجان الغليظ..
اجتمعوا.. الشيخ سوف يلقي
عليكم المحاضرة !!
غريب!
شباب العنبر يبدو على
وجوههم الفرح.
في لحظات كان المكان مهيئاً.
دخل الشيخ - سبحان الله !!
كأن على وجهه مسحة ملك..
أنوار الطاعة والطهر تحفه..
ما الذي جاء بك إلى هذا
المكان..
قبل أن أتمعن في وجهه أكثر..
قاموا يسلمون عليه باحترام
وقربوا إليه الكرسي.. جلس
وبدأ كلامه..
المكان محاط بالهدوء.. مزدان
بالنور.. مزين بالخشوع
صوته.. يدخل إلى الآذان..
كنسيم الفجر.. وهبّات المساء
ألفاظه الرائقة.. تستقر في
الأفئدة.. وتحلّق مع الروح.
بدأ يقرأ آيات الله.. وأحاديث
رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
الرؤوس مطرقة.. الأرواح لها
حنين.. والقلوب لها أنين..
والصدور لها أزيز.. وأنا
مبتعد.. أقبع في زاوية.. أراقب
من بعيد.
انتهت الموعظة بعد أن غُسلت
العيون والقلوب..
أحدهم.. جزاك الله خيراً يا
شيخ "..
آخر.. لماذا لا تأتي كل يوم..
آخر.. ياليتك هنا معنا..
ضحكت.. لعله يقول في نفسه
الآن.. الحمد الله الذي عافاني
مما ابتلاكم به..
شيعوه إلى خارج العنبر..
وهو يلاطفهم بابتسامته
الصادقة.. وكلماته الرائعة..
من هول ما رأيت.. لم أستطع
الوقوف على رجلي للسلام
عليه.. لا بأس المرة القادمة إن
شاء الله.
لم تفارق صورته عيني. ولم
يفارق كلامه سمعي..
متى يعود..؟!
عند النوم.. أرجعت شريط
اليوم.. صورته وهو يتكلم..
صورتهم وهم يبكون.. سقطت
على وسادتي دمعات على
الرغم من أنها كانت قليلة
لكنها أزالت بعض الهمْ..
وكشفت بعض الغم.
لم يأتني النوم.. توضأت..
بحثت عن مصحف.. فتحته
بدأت أقرأ.. لم أعد أملك عيني.
لم أستطع أن أتمالك نفسي
تفجر صدري بالنحيب.. وعيني
بالدموع.. الصوت يعلو..
فُتحت الأنوار.
ماجد.. ما بالك؟
جلسوا معي
انهدم الحاجز الذي بيني
وبينهم.. ومع الصباح.. أصبحنا
أصدقاء.
كنت أدعو كل يوم أن يأتي
ذلك الشيخ أشكو إليه بثي..
بعد أيام.. جاء الشيخ..
طرت فرحاً.. ورقصت طرباً،
هِبتُ السلام عليه.. جلس على
الكرسي وبدأ.. يقطر عسلاً..
ويصُب شهداً..
.. أخي هل تعرف ربك أنه
الواحد الأحد الفرد الصمد أنه
الذي خلقك فسواك فعدلك.. إنه
الغفور الرحيم.. الجواد الكريم
تفكر.. في عينيك.. في يديك..
في فمك.. من خلق هذا كله ؟
من الذي أعطاك عينين ترى
بهما.. ولو شاء لجعلك أعمى
أليس هو الله ؟!
هل يليق أن تخون الله بهما؟!
فتستعملهما في معصية الله..
كالظلم والبطش.. والسرقة..
أخي.. من الذي أعطاك فماً..
ولو شاء لجعلك أخرس أليس
هو الله ؟!
هل يليق أن تخون الله به؟!
فتتكلم بمعصية الله.. وتشرب
ما حرمه الله عليك.
أخي.. هل تحب الله..؟
كيف تعصيه إذن؟
هل يليق أن تعصي من تحب.
أخي.. كم ستعيش ؟
سبعين سنة.. مائة سنة.. ألف
سنة.. ثم ماذا.. ثم موت!!!
ثم تلقى الله.. الذي كنت
تعصيه طوال عمرك.. سوف
تلقى سيدك ومولاك فماذا
تقول له.
أخي.. ألم تسمع قول الله -
عز وجل- " قل ياعبادي
الذين أسرفوا على أنفسهم لا
تقنطوا من رحمة الله إن الله
يغفر الذنوب جميعاً إنه هو
الغفور الرحيم ".
لماذا تحب معصية الله ؟!
لماذا تكره طاعة الله؟!
ماذا فعل بك ربك.. حتى
عصيته ولم تطع أمره ؟!
ألم يخلقك.. ألم يرزقك؟! لماذا
تهرب منه.. وهو يناديك إليه ؟!
هل تظن أن الله محتاج
لتوبتك ؟! كلا.. إنك فقير إلى
الله وهو غني عنك.
أخي.. انظر إلى المعصية ماذا
فعلت بك ألقتك مهاناً في
سجنها الضيق أين لذتها.. أين
أحبابك.. أين أصدقاؤك تركوك
وهربوا.
أخي.. ماذا تركت خلفك؟
أُمّاً تكبي عليك.. ولا تغمض
جفنيها.. تفكر فيك وتدعو لك،
وأباً.. يتوارى من الناس حتى
لا يسألوه عنك..
أخي.. لقد جربت كل شيء..
الأفلام.. الأغاني.. الأصدقاء..
السفر.. الـ.. كل شيء فلماذا
لا تجرب طاعة الله، وسلوك
طريق الله استمع إلى ربك
وهو
يحثك على التوبة.. والرجوع
والأوبة.. " ألم يأن للذين آمنوا
أن تخشع قلوبهم لذكر الله
وما نزل من الحق ".
أما حان الوقت للتوبة
والرجوع.. والإيمان والخشوع..
والندم والدموع..
ومضى في موعظته..
والصدر له أزيز كأزيز
المرجل..
فعلا الصوت والبكاء.. وارتفع
النشيج والخنين.. وسالت
الدموع والعبرات.. فوقفت
منفجراً..
(( تبت إلى الله ))
(( تبت إلى الله ))
(( تبت إلى الله ))