بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أن النبي,صلى الله عليه وسلم, قال( إن الله تعالى يقول, يا بن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسدُّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت يديك شغلاّ ولم أسد فقرك )رواه الترمذي وصححه الألباني,تفرغ من مهماتك وأشغالك الدنيوية لطاعتي والتقرب إلي بأنواع القرب, وملأ قلبك بعز العبودية,هي المهمة العظيمة التي من أجلها خُلق الخلق ، وهي بمفهومها الشامل لا تقتصر على أداء الشعائر التعبدية,من صلاة وصيام وحج وذكر وغير ذلك، ولكنها تمتد لتنتظم حياة الإنسان كلها بشتى جوانبها وأنشطتها بحيث لا يخرج شيء منها عن دائرة التعبد لله رب العالمين ، وتمتد كذلك لتشمل جميع ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة قال تعالى(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)ولا يبلغ الإنسان ذروة الكمال البشري في العزّة والشرف والحرية حتى يحقق هذه الغاية ، وقد وصل إلى هذا الكمال أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام ، وفي مقدمتهم نبيّنا محمَّدٌ, صلى الله عليه وسلم، الذي خاطبه ربُّه جل وعلا في أعلى مقاماته,مقامِ تلقي الوحي ومقامِ الإسراء,بوصف العبودية ، باعتبارها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يرقى إليها الإنسان ، فقال سبحانه (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) وكلما ازداد العبد تحقيقاً لهذه العبودية كلما ازداد كماله وعلت درجته,وكل من تعلّق قلبه بمخلوق وأحبَّه ، وعلق عليه نفعه وضرَّه فقد وقع في ربقة الرقّ والعبودية له ، شاء أم أبى ، إذ الرقّ والعبودية في الحقيقة ، هو رقُّ القلب وعبوديته,ولهذا يُقال, العبد حرٌّ ما قنع والحرُّ عبدٌ ما طمع، وكلّما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه في قضاء حاجاته ، كلما قويت عبوديته وحريته عمَّا سواه ،ولهذا فإن حقيقة الغنى إنما هي في القلب ، وهي القناعة التي يقذفها الله في قلوب من شاء من عباده ، فيرضون معها بما قسم الله ، ولا يتطلعون إلى مطامع الدنيا أو يلهثون وراءها لهث الحريص عليها المستكثر منها,وقد بين ذلك عليه الصلاة والسلام بقوله( ليس الغنى عن كثرة العرَض,ولكن الغنى غنى النفس ) كما في البخاري ، وقال( أترى أن كثرة المال هو الغنى ,إنما الغنى غنى القلب ، والفقر فقر القلب ، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا ، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا ، وإنما يضر نفسه شحها ) وكم من غني عنده ما يكفيه وأهله عشرات السنين ، ومع ذلك لا يزال حريصاً على الدنيا ، يخاطر بدينه وصحته ، ويضحي بوقته وجهده ، وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس ، مع أنه قد لا يجد قوت غده ، فالقضية إذاً متعلقة بالقلوب وليست بما في الأيدي,يقول عمر رضي الله عنه, إن الطمع فقر ، وإن اليأس غنى ، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه، وسئل أبو حازم فقيل له, ما مالُك, قال, لي مالان لا أخشى معهما الفقر,الثقة بالله ، واليأس مما في أيدي الناس, وقيل, ما الغنى, قال, قلة تمَنِّيك ، ورضاك بما يكفيك ، وهذا الحديث العظيم يضع للعبد علاجاً عظيماً للهموم والغموم التي يتعرض لها في حياته الدنيا ، هذا العلاج هو الاشتغال بما خلق له وهو عبادة الله عز وجل ، والاهتمام بأمر الآخرة ، فإن العبد إذا شغله همُّ الآخرة أزاح الله عن قلبه هموم الدنيا وغمومها ، وخفف عنه أكدارها وأنكادها ، فيصفو القلب ويتجرد من كل الأشغال والصوارف ، يقول,صلى الله عليه وسلم( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له )
قال الإمام ابن القيم رحمه الله, إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها ، وحمَل عنه كلّ ما أهمّه ، وفرّغ قلبه لمحبته ، ولسانه لذكره ، وجوارحه لطاعته ، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه,فعلى العبد أن يقنع بما قسم الله له ، وأن يثق بوعد الله وحسن تدبيره له ، وألا يكون شديد الإضطراب والخوف مما يستقبل ، فالمستقبل بيد الله ، وأن ينظر إلى من هو دونه في أمور الدنيا ، وليستعن على ذلك بقصر الأمل واليقين بأن الرزق الذي قُدِّر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه ، فليست شدة الحرص هي السبب لوصول الأرزاق0
وأسأل الله لي ولكم أن يدخلنا في رحمته وأن لايجعل الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا ولا إلي النار مصيرنا
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك