الحمد لله الذي خلق الموت
والحياة ليبلوكم أيكم أحسن
عملاً وجعل للوصول إليه
طرائق واضحة وسبلاً وأشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له شهادة نرجو بها
عالي الجنان نزلا وأشهد أن
محمداًً عبده ورسوله أقوم
الخلق دينا وأهداهم سبلا صلى
الله عليه وعلى آله وأصحابه
والتابعين لهم بإحسان وسلم
تسليماً.
أما بعد أيها الناس: لقد أتى
على الإنسان حين من الدهر
لم يكن شيئاً مذكوراً حتى
أوجدكم الله من العدم وأسبغ
عليكم النعم ودفع عنكم النقم
ويسر لكم من أسباب البقاء
وأسباب الهداية وبين لكم ما
ينفعكم وما يضركم بين لكم
أن للإنسان دارين دار ممر
وزوال ودار مقر وخلود أما
الدار التي هي دار ممر
وزوال فهي دار الدنيا التي
كل ما فيها فهو ناقص إلا ما
كان مقرباً إلى الله تعالى
آمالها آلام وصفوها أكدار لو
تبصر العاقل فيها أقل تبصر
لعرف قدرها وهوانها وعرف
كيف غدرها وخداعها تتراءى
لعاشقيها كالسراب يحسبه
الظمأن ماء حتى إذا جاءه لم
يجده شيئاً وتتزين لهم بأنواع
الزخارف والمغريات حتى إذا
أخذت الأرض زخرفها وازينت
وظن أهلها أنهم قادرون عليها
أتاها أمر الله ليلاً أو نهاراً
فجعلها حصيداً كأن لم تغن
بالأمس فمآلها عدم وفناء
وجمالها عذاب وشقاء هذه
هي الدنيا: {لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ
وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي
الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ
فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً
وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ
وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَ مَتَاعُ
الْغُرُورِ** [الحديد:20]. أيها
الناس أما الدار الآخرة فهي
الحياة الحقيقية التي فيها
جميع مقومات الحياة من
البقاء والسرور والسلام
والحبور هي الحياة الحقيقية
التي ينطق الإنسان إذا شاهد
حقائقها يقول يا ليتني قدمت
لحياتي فالحياة الحقيقية
هي الحياة الآخرة التي يحيا
الناس فيها فلا يموتون: {فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ
فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا
كَالِحُونَ** [المؤمنون:101-
103]أيها الناس اتقوا الله
تعالى وانظروا نظر العاقل
البصير المرمن، قارنوا بين
الحياة الدنيا وحياة الآخرة
لتعرفوا الفرق بين الدارين
ففي الدار الآخرة ما تشتهيه
الأنفس وتلذ الأعين وهي دار
السلام سالمة من كل نقص
ومن كل بلاء لا مرض فيها
ولا موت ولا بؤس ولا هرم
يقول النبي - صلى الله عليه
وسلم - ((لموضع سوط
أحدكم في الجنة خير من
الدنيا وما فيها)) وهذا كلام
الصادق المصدوق إن موضع
العصا في الجنة خير من
الدنيا كلها من أولها إلى
آخرها بكل ما فيها من نعيم
وترف إذا كان هذا خيراً من
الدنيا كلها فكيف بما أدركت
منها من الزمن القليل وإذا
كان موضع السوط خيراً من
الدنيا كلها فكيف بمنازل أدنى
منزلة فيها مسيرة ألفي عام
يرى أقصاها كما يرى أدناها.
أيها الناس: إن من العجب أن
يؤثر أقوام الحياة الدنيا على
الآخرة والآخرة خير وأبقى
يؤثرونها على الآخرة فيعملون
لها ويدعون عمل الآخرة
يحرصون على تحصيل الدنيا
وإن فوتوا ما أوجب الله عليهم
ينغمسون في شهواتهم
وسهواتهم وينسون شكر من
أنعم بها عليهم علامة هؤلاء
أنهم يتكاسلون عن الصلوات
ويتثاقلون ذكر الله ويخونون
في الأمانات ويغشون في
المعاملات ويكذبون في
المقالات ولا يوفون بالعهود
ولا يبرون الوالدين ولا يصلون
الأقارب.
أيها الناس: إن من آثر الحياة
الآخرة على الدنيا حصل له
نعيم الآخرة والدنيا لأن عمل
الآخرة يسير على من يسره
الله عليه ولا يفوت من الدنيا
شيئاً فإن من ترك شيئاً لله
عوضه الله خيراً منه والله
سبحانه وتعالى يقول: {مَنْ
عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً
وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ**، قال تعالى:
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ** أما من
آثر الحياة الدنيا على الآخرة
فإنه قد يؤتى من الدنيا ولكن
ليس له في الآخرة من
نصيب: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ
أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ
يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ
لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَ النَّارُ وَحَبِطَ
مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ** [هود:15،16].
اللهم اجعلنا ممن آثروا الآخرة
على الدنيا وآتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار.
أقول قولي هذا.. الخ.