الحمد لله أحمده حمدا يليق بذاته, وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله صلاة وسلاما تليقان بذاته الكريمة, وبعــــــــــــــــــــــــد
أرحب بكم إخواني الأعزاء, وأدعو الله العلي القدير أن يفقهنا في ديننا, وأن يعلمنا ما ينفعنا, وأن ينفعنا بما علمنا,... آمين.
بينما الشيخ جالس عند أحد أقاربه ذات يوم, أراد هذا القريب أن يستلقي بعض الوقت, كما يقال بلغة العصر "يمـــــــدد" فتح النافذة فوق رأسه واستلقى على ظهره, ومدد قدميه, وقد فتح النافذة حتى ينعم ببعض الهواء, ولكن سرعان ما دخل الذباب وأخذ يتهاوى عليه, وكلما طرد واحدة جاءته الأخرى حتى نغص عليه نومه وجعله لا يهنأ برقدته, فقام ينظر وهو مغضب, وسأل الشيخ سؤالا : لماذا خلق الله الذباب ؟ أرى أنه لا يحقق لنا نفعا, بل يحقق لنا مضايقات ومساكسات, ألهذا خلقه الله ؟ أجبني يا شيخي لماذا خلق الله الذباب ؟
فضحك الشيخ... وتذكر أن الله سبحانه وتعالى أتقن كل شىء خلقه, وكل شيء خلقه الله لحكمة يعلمها, ولكن الله ورسوله أمرانا أن نتفكر في مخلوقات الله, ومصنوعات الله, مهما رأيناها صغيرة, ومهما أبصرناها حقيرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمرنا قائلا : تفكروا في مصنوعات الله
وقبل الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أولا أن نتفكر وأن نتعرف على هذا الخلق من مخلوقات الله, ألا إنه الذبـــــــــــــاب.
فالذباب جند من جنود الله, وهو أضعف جند الله, لدرجة أن العلماء قالوا : لم يجعل الله سبحانه وتعالى لعينيه جفونا لدقته ولصغر حجمه, ولأن عين الذباب لا تتحمل الجفن, ولذلك عوض الله الذبابة عن الجفون بيدين أماميتين تمسح بهما عينيها, ألم ترها تفعل ذلك مرارا وتكرارا إذا تفكرت ونظرت فيها, الذبابة مع دقتها وخفتها وصغر حجمها, تتهاوى على كل الأشياء, فهي كما يقال حمقاء, حتى إنها تتهاوى على ما قد تلقى فيه حتفها, وينقضي فيه أجلها, هي تقع على الشيء الحلو, وهي تقع على الشيء العفن, لا تترك شيئا إلا وتأخذ منه نصيبا.
وإذا تهاوت على الشيء تراها - خاصة إذا كانت معرضة للهلاك- تنزل بجناحها الأيسر, ولما تفكر المتفكرون في ذلك قالوا لأنها أدركت أنها إذا لقيت حتفها في شيء فلابد وأن تلحق الضرر بهذا الشيء, فجناحها الأيسر فيه سم, وسبحان من أعلمها بذلك فتتهاوى بجناحها الأيسر, حتى تلقي بسمها فيما لاقت فيه حتفها, ولذلك كان من حكمة النبي صلى الله عليه وسلم -الذي علمه ربه وقال فيه " وما ينطق عن الهوى"- أنه قال لنا في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري "إذا وقعت الذبابة في إناء أحدكم فليغمسها, ففي إحدى جناحيها الداء وفي الأخرى الدواء".
وهذه من قدرة الله في هذا الشيء الصغير الحقير, سبحان من علمها, وسبحان من علم رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعلمنا ذلك.
فكما قلت اكتشفوا أن الذباب يتهاوى على كل شيء إلا شجرة هي من أعدى أعداء الذباب, فهو لا يقربها بأي حال من الأحوال, قال العلماء هي شجرة اليقطين-القرع- والتي جاء ذكرها في القرآن الكريم-وقد أفردنا لها مقالة بعنوان شجرة اليقطين غذاء ومأوى وشفاء- وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن يونس عليه السلام حينما خرج من بطن الحوت أنبت الله له شجرة اليقطين قال تعالى " وأنبتنا عليه شجرة من يقطين ", قال العلماء انبات هذه الشجرة كان لعدة علل وعدة حكم, كان منها أنها طاردة للذباب فلا يقربها أبدا, وذلك حماية لسيدنا يونس من الذباب وأذاه.
وهذه الذبابة مع حقارتها وضآلتها كانت سببا في إدخال رجل الجنة, وكانت سببا في إدخال رجل النار, وياللعجب في ذلك وكيف ذلك ؟
اسمع أخي الحبيب لفظ هذه الرواية الصحيحة التي رواها وتحدث بها الصحابي الجليل سلمان الفا رسي, أخرج هذه الرواية الإمام أحمد في كتاب الزهد بسند رجاله ثقات, وأخرجها أبو نعيم في حليته في ترجمة العبد الصالح الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين, يقول سلمان: دخل رجل الجنة في ذبابة, ودخل رجل النار في ذبابة, قالوا لسلمان : وكيف هذا ؟ قال: مر رجلان على قوم يعكفون على صنم لهم وكانوا قد اشترطوا ألا يجاوزه أحد حتى يقدم له قربانا, فلما جاء الرجلان استوقفهما عباد هذا الصنم فقالوا للأول: قدم للصنم قربانا حتى ندعك تجوز-أي تمر- فقال: ما عندي شيء أقدمه للصنم, قالوا قدم ولو ذبابا, فأمسك بذباب وقدمه قربانا لهذا الصنم فدخل النار, وقالوا للآخر قدم قربانا لهذا الصنم, قال لا أجد قربانا ولا أقدم قربانا له, قالوا لماذا ؟ قال والله لا أقدم قربانا لأحد من دون الله, فقتلوه فدخل الجنة.
هذه هي الذبابة في تعريف وجيز وسريع, ونعود إلى سؤالنا لماذا خلق الله الذباب ؟
هذا السؤال طرح من قبل على أكثر من رجل, فطرح على الإمام جعفر وعلى الإمام الشافعي وعلى مقاتل ابن سليمان.
فالإمام الشافعي كان يجلس في مجلس المأمون, فجاءته ذبابة ووقعت على وجهه وأخذت تضايقه, فنظر المأمون إلى الشافعي وقال له يا شافعي لماذا خلق الله الذباب ؟ فقال له الإمام الشافعي ليذل به الملـــــــــــــوك.
فضحك المأمون وقال يا شافعي رأيت الذباب وقد وقع علي فأجبتني, قال يا أمير لما سألتني ما كان عندي إجابة إلا حينما وقع الذباب على موضع منك لا يناله منك أحد-فلا يستطيع أحد من الرعية أن يضع أصبعه مثلا في وجه الأمير أو في عينيه أو أن يصفعه على خده أو على قفاه ومع هذا تأتي هذه الذبابة مع حقارتها وضآلتها تقع على عينيه فتجعله يغمضها, وتقع على وجهه وكأنها تصفعه وهو عاجز عن منعها وهو الخليفة الأمير-فألهمني الله فيه الرد, فقال يا شافعي لله درك.
هذه إجابة أجاب بها الشافعي, وأجاب بها الإمام جعفر, وأجاب بها مقاتل ابن سليمان.
ولذا جاء ذكر الذباب في القرآن الكريم في موضع ينبغي أن نفهمه جيدا, ليجلي لنا هذه الإجابة التي أجاب بها الشافعي وغيره.
الله سبحانه وتعالى يخاطب الناس جميعا فيقول عز من قائل " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له, إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له, وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه, ضعف الطالب والمطلوب " الحج
وإذا أردنا أن نقف مع هذه الآية لضممنا إلى قول الشافعي وغيره قولا آخر, إن الله سبحانه وتعالى ضرب بالذبابة مثلا-ووالله لو لم يخلق الله الذبابة إلا ليضرب بها هذا المثل لكان هذا كافيا في أن يخلقها الله.
الله خلقها ليذل بها الملوك والجبابرة, وخلقها ليتحدى بها, هي أضعف خلقه, ومع هذا فدعاة الكبر والغطرسة, يجلس أحدهم فيقول أنا أفعل وأفعل, والأمم والملوك الذين يصنعون الأعاجيب, وأمريكا التي صعدت إلى القمر والتي بنت ناطحات السحاب, أمريكا التي تصنع الغواصات والطائرات والسيارات الفارهة, لو عرضنا على أمريكا بما لديها من تكنولوجيا وعلم وعلماء وإمكانات, وأرسلنا إليها ذبابة وقلنا لهم اصنعوا مثلها هل يستطيعون ؟ كلا والله.
والذي يجلس ويقول أنا أفعل وأفعل وأفعل, ذبابة صغيرة قادرة على أن تجعله يلقى حتفه, ففي تاريخ الملوك والأمم إن ملكا وقد كان جبارا, كان السبب في هلاكه ذبابة أصابته بالحمى فلقي حتفه.
وما النمرود في زمن سيدنا إبراهيم عليه السلام عنا ببعيد فقد أهلكته بعوضة.
خلق الله الذباب حتى يعرف الإنسان قدره, وحتى يعرف حده.
حتى تعرف أنك بقوتك وبجبروتك, بطولك وعرضك, بمالك وبحسبك وبنسبك قد تقوم بإذلالك ذبابة, فلمَ التكبر ؟
كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها وعن الصحابة أجمعين, "مالابن آدم والفخر, وتنتنه عرقة, وتقلقه بقة, وتميته شرقة "
كذلك تأتيك ذبابة تضيع منك النوم وتجعلك لا تهنأ بغمضة عين, أيضا تأتيك ذبابة تحمل إليك المرض الذي يجعلك تلقى حتفك, ولا ينفع معك دواء بأي حال من الأحوال.
ومهما فعل الإنسان فلن يستطيع أن يخلق مثلها, لأن الروح لا يعرف كنهها ولا سرها إلا الله عز وجل, ولذلك فقد ضرب مثلا للمغفلين الحمقى الذين كانوا لا يفهمون وكانوا يعبدون الحجارة والخشب من دون الله رب العالمين, ويعتقدون أنها تنفع وتضر, ويذهبون إليها يتلمسون منها النفع, ويتلمسون منها دفع الضر, وسبحان الله أراد الله أن يضرب لهم مثلا بهذه الآية الكريمة ف"لن" تفيد التأبيد أي أبدا لايستطيعوا ولو اجتمعت الدنيا كلها على ذلك.
وانظر -ووالله الذي لاإله إلا هو يجلس أحدهم يقول لو أن أحدا أخذ مني ولو مليما بغير خاطري لقطعت رقبته, فتأتي الذبابة وتسرق من طعامه وشرابه ولا يستطيع أن يفعل لها شيئا, وهكذا كانت الأصنام, كانوا يقومون بطلائها بالزعفران وما شابه ذلك, الله يقول لهم " لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له, وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " كانت الذبابة تقف على الإله المزعوم تسرق منه ومن طعامه ومما قدم له من قرابين, وهو عاجز عن أن يأخذ من الذبابة ما أخذته منه, لدرجة أن هؤلاء الحمقى والمغفلين كانوا يقولون لنصنع شيئا يعصم طعام الآلهة من الذباب, والآلهة ألا تستطيع أن تعصم طعامها " ضعف الطالب والمطلوب "
ولذلك فإن الإنسان إذا جلس ليتفكر في أقل مصنوعات الله لرأى
عجبا.
فالحديث عن الذبابة التي هي خلق من خلق الله وصنعة من مصنوعاته يطــــــــول ويطــــــــول.
وقد كتب العلماء في الذباب كثيرا, وسبحان الله هذه الذبابة التي جاء ذكرها في القرآن والسنة, إن في أمرها لعجبا.
وسأختم مقالتي هذه بأمرين :
الأمر الأول : إن أحد الملوك تعلم من حكيم بسبب ذبابة, كيف هذا ؟
جلس الملك ليتحدث مع وزيره ليقول له : أرى أن الرجال ينصرفون من حولي وأريد أن أجمعهم فماذا أفعل ؟ فقال الوزير : اجمع كثيرا من المال ثم بالمال اشترِ الرجال, تستطيع بالمال أن تجدهم وقت ما تريد, قال: وما دليلك على ما تقول؟ قال: سأبين لك, فأصدر الوزير أمرا بأن يحضروا له وعاءا به عسلا, فأحضروا له الوعاء, فلما وضع الوعاء بين يدي الملك بدأ الذباب يتهاوى على الإناء فقال له كثير من الرجال كالذباب, الذباب يجمعه العسل, والرجال يجمعهم المال, جلس الملك يفكر في هذا الكلام وكاد أن يقنع به إلى أن دخل عليه أحد جلسائه الحكماء, فلما دخل عليه قال له: لقد حزبني أمر وقررت شيئا, قال ما هو ؟ قال: أرى أن الرجال ينصرفون عني وقد قررت أن أجمع المال حتى أجمع الرجال, قال وكيف علمت هذا ؟ قال: أحضرنا وعاءا به عسلا فتهاوى عليه الذباب, وكذلك يتهاوى الرجال على المال, فقال الحكيم: ياأيها الملك إن الرجال الذين يكونون كالذباب لا يأتون إليك في الوقت الذي تريده و فقد يأتونك في وقت ويتخلون عنك في وقت آخر, قال: وما دليلك على هذا ؟ فقال: انتظر حتى يأتي المساء وسأبين لك, فلما دخل المساء أحضر هذا الحكيم وعاء العسل وقال للملك: انظر هل تهاوى عليه ذباب-فما جاءت ولو ذبابة واحدة لأن الذباب بليل يختفي- قال وهكذا الرجال الذين هم كالذباب يأتونك في وقت ويتخلون عنك في وقت آخر, إذا أردت أن تشتري الرجال فاشترِ الرجال بالعدل والحب يأتوك في كل وقت, وتجدهم في كل حين.
فانظر يا رعاك الله,لقد أخذ هذا الرجل الحكمة عن طريق الذباب كيف يأتي وكيف لا يأتي.
وإن هناك أناس كالذباب يأتون بالمال, ولكن لا يأتون في كل وقت وإنما يأتون في الوقت الذي يعلمون فيه أن إتيانهم لن يعرضهم لخسارة, فإذا كانت هناك خسارة أو ما يريب يتخلون عمن التفوا حوله.
الأمر الثاني: ما تأويل الرؤيا التي يراها الشخص وفيها الذباب وماذا تعني ؟ يقول علماء الرؤى والتأويل إذا رأيت الذباب في منامك فتأويلها أن هناك عدو ضعيف ولكنه لحوح لا يهدأ, ويحوم حولك, وهكذا الذباب, فكن على حذر من هذا العدو الضعيف اللحوح.
في الختام أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.