واعتصمــوا بحبــل الله جميعــاً ولا
تفرقــوا
د. مهران ماهر عثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا
تفرقوا
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على سيد
المرسلين، نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين، أما بعد.
فقد أمرت الشريعة بالاعتصام،
ورغبت فيه، ونهت عن الفرقة،
ورهبت عنها، وفيما يلي
تفصيل ذلك..
الأمر بالاعتصام:
قال تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا{ (آل
عمران/103).
قال ابن مسعود رضي الله عنه
: "حبل الله الجماعة"([1]).
وممن قال بهذا ابن المبارك
رحمه الله.
الترغيب في الجماعة:
الجماعة نعمة؛ فإن الله امتن
بها على الصحابة:
قال تعالى: }هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ
بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ
قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ{ (الأنفال/62-
63).
والجماعة رحمة:
وفي ذلك يقول سيدُنا رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم:
«الجماعة رحمة» رواه أحمد.
وفي الجماعة العصمة:
قال تعالى: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ
خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا{
(النساء/59).
ووجه الدلالة من الآية الكريمة:
أنها دالة على حجية الإجماع،
فإذا كان المؤمنون مأمورين
برد الأمر إلى الله ورسوله
حال النزاع فمفهوم ذلك أن
إجماعهم لا يرد إليهما لكونه
حجةً.
ومثلها في إفادتها ودلالتها:
}وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ{
(الشورى/10).
وهذه من بركة الجماعة
والاتفاق.
والعلو على الأعداء يكون
باجتماعنا:
قال صلى الله عليه وسلم:
«أفشوا السلام؛ كي تعلوا»
رواه ابن حبان.
وذلك لأن التسليم إذا فشا في
أوساطنا وكان سمةً لمجتمعنا
حلّ الود بيننا، وحطت الألفة
رحلها في ساحتنا، فكنا يداً
واحدةً، وكان الظهور لنا،
والغلبة معنا.
تأبى الرماح إذا اجتمعن
تكسراً --- وإذا افترقن
تكسرت آحاداً
وبالجماعة ينال عون الله:
قال صلى الله عليه وسلم: «يد
الله مع الجماعة» رواه
الترمذي.
والمعنى: أن الله يؤيد بعونه
الجماعةَ التي تعتصم بحبله.
وبالجماعة يُغاظ الكافرون:
قالت أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها، قال النبي
صلى الله عليه وسلم: «إنهم -
اليهود-لا يحسُدونا على شيءٍ
كما يحسُدونا على يومِ الجمعة
التي هدانا الله لها وضلُّوا
عنها، وعلى القبلة التي هدانا
الله لها وضلوا عنها، وعلى
قولنا خلف الإمام: آمين» رواه
أحمد في المسند.
والذي يجمع بين هذه الثلاثة
التي ذكرها النبي صلى الله
عليه وسلم كونها تبين وحدة
المسلمين وتجسدها، ولهذا
حسدونا على ذلك.
فهذا يغيظهم وإغاظة هؤلاء
مطلب شرعي. قال تعالى:
}وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ
الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا
إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ{
(التوبة: 120).
والجماعة سمة بارزة يتميز
بها المجتمع الإسلامي:
قال تعالى: } وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { (التوبة:
71).
وتأمل هذا المثل الذي ضربه
نبينا صلى الله عليه وسلم؛ عن
النعمان بن بشير رضي الله
عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله
صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ
المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ
وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ
الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ
والحُمَّى» متفق عليه.
والتواد: بذل أسباب المحبة
كالزيارة. والتراحم: يكون
بالقلب. والتعاطف: الوقوف
بجانبهم عند النكبات.
وفي الصحيحين قال صلى
الله عليه وسلم: «المُؤْمِنُ
للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صلى الله عليه وسلم:
«الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ،
ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ
عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى
مَنْ سِوَاهُمْ» رواه أحمد وأبو
داود.
وقوله: «وهم يد»؛ هم: ضمير
منفصل يدل على الجمع، ويد:
لفظ مفرد، فهذه جملة تدل
على التماسك العظيم الذي
ينبغي أن يكون عليه المسلمون.
وقال الله تعالى: }وَالَّذينَ
كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ
تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ
وَفَسَادٌ كَبِيرٌ{ (الأنفال : 73)،
ومعنى الآية: أن الكفار ينصر
بعضهم بعضاً، ونحن إذا لن
تحل هذه النصرة بيننا ساد
الفساد، قال ابن كثير رحمه
الله([2]):" أي: إن لم تجانبوا
المشركين وتوالوا المؤمنين،
وإلا وقعت الفتنة في الناس،
وهو التباس الأمر، واختلاط
المؤمن بالكافر، فيقع بين
الناس فساد منتشر طويل
عريض".
والجماعة سببٌ لنيل رضاء الله:
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله
عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ
يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ
ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ
وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ
تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا
تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ؛ قِيلَ
وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،
وَإِضَاعَةِ الْمَالِ» رواه مسلم.
ورضوان الله أعظم من جنته:
قال تعالى: }وَعَدَ اللَّهُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً
فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ
اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ{ (التوبة: 72).
الفوز بالجنة:
قال نبي الله صلى الله عليه
وسلم: «مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ
فليلزم الجماعة» رواه الترمذي.
وبحبوحتها: وسطها وأفضلها.
ونهت نصوص الشرع عن
التفرق:
قال تعالى: }وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا{ (آل
عمران/103).
وقال: }وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{ (الروم:
31-32).
أي: ولا تكونوا من المشركين
وأهل الأهواء والبدع الذين
بدَّلوا دينهم، وغيَّروه، فأخذوا
بعضه، وتركوا بعضه؛ تبعًا
لأهوائهم، فصاروا فرقًا
وأحزابًا، يتشيعون لرؤسائهم
وأحزابهم وآرائهم.
وقال: }وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ
عَذَابٌ عَظِيمٌ{ (آل عمران/
105).
والمعنى: ولا تكونوا أيها
المؤمنون كأهل الكتاب الذين
وقعت بينهم العداوة والبغضاء
فتفرَّقوا شيعًا وأحزابًا،
واختلفوا في أصول دينهم من
بعد أن اتضح لهم الحق،
وأولئك مستحقون لعذابٍ
عظيم موجع.
وقال: }ولا تنازعوا فتفشلوا
وتذهب ريحكم{ (الأنفال/46).
وقال: }وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{
(الأنعام/153).
وقال: }شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا
وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ{
(الشورى/13).
وكما حذَّر ربنا من ذلك حذر
نبينا صلى الله عليه وسلم
فقال: «إياكم والفُرقة» رواه
الترمذي.
وعن جابر بن سمرة رضي
الله عنه قال: خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا
حَلَقًا([3]) فَقَالَ: «مَالِي أَرَاكُمْ
عِزِينَ» رواه مسلم.
قال النووي رحمه الله: "معناه
النهي عن التفرق والأمر
بالاجتماع"([4]).
وفي سنن أبي داود قال أَبُو
ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ رضي الله عنه :
كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلًا
تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي
هَذِهِ الشِّعَابِ وَالْأَوْدِيَةِ إِنَّمَا
ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ». فَلَمْ يَنْزِلْ
بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلًا إِلَّا انْضَمَّ بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يُقَالَ: لَوْ
بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ.
ورهبت النصوص من التفرق:
فقد برأ الله نبيه صلى الله
عليه وسلم من أهل التفرق:
قال تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ
فِي شَيْءٍ{ (الأنعام/159).
والتفرق إرضاء للشيطان:
قال نبينا صلى الله عليه وسلم:
«إن الشيطان قد أيس أن
يعبده المصلون في جزيرة
العرب ولكن في التحريش
بينهم» رواه مسلم.
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: «إن إبليس يضع
عرشه على الماء ثم يبعث
سراياه، فأدناهم منه منزلة
أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم
فيقول: فعلت كذا وكذا.
فيقول: ما صنعت شيئا. ثم
يجيء أحدهم فيقول: ما
تركته حتى فرقت بينه وبين
امرأته. فيدنيه منه، ويقول: نعم
أنت» رواه مسلم.
والتفرق تشبه بالمشركين:
قال تعالى: }وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ
بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ{ (الروم:
31-32).
والتفرق سبب للعذاب:
قال النبي صلى الله عليه
وسلم: «الجماعة رحمة الفرقة
عذاب» رواه أحمد.
فإن الناس إذا تفرقوا كانت
الحروب والفتن.
وهو من أسباب دخول النار:
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله
عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي
إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى
وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي
سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ
فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا
وَاحِدَةً، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» رواه
ابن ماجة.
تأمل!!
في سنن ابن ماجه أنّ النبي
صلى الله عليه وسلم بعث
جيشا من المسلمين إلى
المشركين، فحاصر مسلم
كافر، فقال الكافر: إني
مسلم. فطعنه فقتله. فأتى
رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا رسول الله
هلكت، قال «وما الذي
صنعت»؟
فأخبره بالذي صنع، فقال
رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «فهلا شققت عن بطنه
فعلمت ما في قلبه»؟
قال: يا رسول الله لو شققت
بطنه لكنت أعلم ما في قلبه.
قال :«فلا أنت قبلت ما تكلم
به، ولا أنت تعلم ما في قلبه»!
فسكت عنه رسول الله صلى
الله عليه و سلم، فلم يلبث إلا
يسيرا حتى مات، قال الراوي:
فدفناه، فأصبح على ظهر
الأرض. فقالوا: لعل عدوا
نبشه. فدفناه. ثم أمرنا غلماننا
يحرسونه. فأصبح على ظهر
الأرض. فقلنا لعل الغلمان
نَعَسُوا. فدفناه ثم حرسناه
بأنفسنا فأصبح على ظهر
الأرض. فألقيناه في بعض
تلك الشعاب فأخبر النبي صلى
الله عليه وسلم فقال : «إن
الأرض لتقبل من هو شر منه،
ولكن الله أحب أن يريَكم
تعظيم حرمة لا إله إلا الله».
ومع ذلك فقد أذن النبي صلى
الله عليه وسلم بقتل من أراد
أن يفرق جمعنا، لأن حرمة
اجتماع المسلمين أعظم من
حرمة المسلم.
رب صل وسلم وبارك على
نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
أجمعين